مكتبتك تحترق.. ما الكتاب الوحيد الذي ستنقذه من النار ؟
آية منصور/
قد لا يفكر أحدنا مطلقاً بهذا الأمر: أن تكون جالساً وفجأة تبصر عينك شيئاً برتقالياً يجتهد ليرتفع ويأكل كلّ حياتك. ماذا ستفعل إن رأيت اندلاع النار في مكتبتك وبدأت بالتهامها، ولتراها تحرق الكتب التي حرصت على اقتنائها كتاباً كتاباً. فهذا كتاب لك معه ذكرى عزيزة، كتاب آخر جاءك هدية من صديق، كتاب تعود إليه دائماً كمصدر لبحثك، تستعر النار في الكتب وليس أمامك إلا فرصة إنقاذ كتاب واحد فقط. فأيّ كتاب ستنقذ من هذه المحرقة؟
أحترق بدلاً من كتبي
توجهنا بهذا السؤال الغرائبيّ إلى عدد من الكتّاب والشعراء، وكان من الطبيعيّ أن تتباين إجاباتهم. فالروائيّ السودانيّ حمور زيادة فضّل احتراقه هو شخصياً على احتراق كتبه، لأن لا كتاب يغني عن آخر. وهو أكثر خبرة من سواه لتعرضه لموقف مشابه. يقول: “مررت بموقف حقيقيّ كهذا حين احترق منزلي بالسودان. كانت أمامي مجموعة من الكتب تأكلها النار. حملت ما استطعت منها. بلا تمييز. لكني ما زلتُ حزيناً على ما احترق منها برغم إني اشتريت نسخاً جديدة. لا كتاب يغني عن كتاب. ولا نسخة تغني عن نسخة. ربما لو احترقت كل مكتبتي ولم أجد وسيلة لإنقاذ أكبر قدر ممكن منها لفضلت أن أحترق معها”.
كتبي أصدقائي
الكاتبة لطفية الدليميّ أصابها سؤالنا بحيرة، فهي تجد صعوبة بالغة في حماية كتاب وترك آخر لفم النيران إذ ترى أن جميع كتبها أثيرة إلى روحها، تضيف الدليمي: “لا أدري ساعتها ماذا سأفعل. لعلّي سأقف مبهوتة حيرى. مكتبتي لم تحترقْ ولكني فقدتها فعلاً وفقدت عدداً من المكتبات في كلّ مدينة أقمت بها. وذلك أشنع من احتراق مكتبة واحدة، الفقدان .. آه أعشق كل الكتب فهي بمثابة آلاف الأصدقاء الخلّص الذين لا يخذلونكِ ولايخونون وينجدونكِ ساعة تلوذين بهم” .
إنقاذ كافافي
غير أن الشاعر كريم راهي اكتفى بانقاذه لكتاب واحد. عسى أن يكون هذا الكتاب منقذه الوحيد في الحياة، قال “سأنقذ كتاب الشاعر اليوناني “كافافيس” فقصائده تتجدّد إثر كل قراءة.
البؤساء
الروائي الكويتي الحائز على جائزة البوكر “سعود السنعوسي” وجد سؤالنا مثيراً للحيرة، حيث أرغمه على التفكير ملياً بأي كتاب سيكتب له القدر حياة جديدة. فهو رأى أن الكتب التي تعلق في الذاكر كثيرة وقد اختلطت جميعها في الرأس حتى اوصلته حدّ الشعور بالذنب إذا ما أنقذ حياة أحدها وترك الثاني. فأجاب: التفتُّ نحو رفوف مكتبتي فور ما تلقيت سؤالكِ وشعورٌ بذنبٍ يشوبه خجل يتناهبني. لو أن المجال يسمح لعدَّدتُ الكتب التي سوف يُفجعني تركها للنيران، ولكن لأقفز على ذكرها وصولًا إلى إجابة سؤالك؛ و سوف أختار رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو.
وبالتأكيد لم يختر السنعوسي “البؤساء” إلا لأسباب كثيرة تقف في مقدمتها شخصية بطل الرواية “جان فالجان” ذلك “الرجل الذي تعرفتُ إليه، ورقياً، في أواخر سنيّ مراهقتي، نهض من الأوراق ليدخل حياتي، يلغي كثيراً من إرثٍ أحمله قبل لقائه ليؤسس لكثيرٍ بعده. كنت كغيري من أبناء جيلي. نحمل إرثاً من الأساطير والملاحم التاريخية، وقصص الجدّات، ومسرحيات أطفالٍ حضرناها صغارا، ومسلسلات كرتونية شكَّلت، بصورة أو بأخرى، وعْيَنا. إشكالية الخير والشر في النفس البشرية. انتصار الخير دائما وأبدا. اللون الواحد، غير المحايد، من بين لونين اثنين وحسب، أما أبيض أو.. أسود. شيء من هذا كله لم أجده في رواية “البؤساء”، من بين أول الروايات التي قرأتها. ما الذي فعله بي هذا الـ”فالجان” حين قرأت الرواية لمؤلفها فيكتور هوغو أول مرة؟ وأي سؤال ألقاه بين يديّ قبل أن يُسلم الروح في آخر الرواية ليتركني وحيداً فوق أنقاض ما يربو على الـ 1500 صفحة قرأتها على مدى أسابيع؟ ولماذا لم يسمعني حين صحتُ به، عندما أدركت الصفحة الأخيرة، في خيبة: “تعال! قبل أن تذهب قُل لي.. من أنت؟”. من يكون هذا اللص الصالح الشرير، الأب الطيب السجين الهارب من العدالة، الخائن المخلص، الفقير المُعدم العُمدة الغني، المُنقذ الضحية التائب؟ أسئلة فُتنتُ بها. اقتربتُ من بعض إجاباتها، وبعضها الآخر لا يزال يلح داخل رأسي أستمتع في البحث عنه آملا في ألا أجده أبداً.
أسئلة ليس لها تفسير سوى أن جان فالجان بكل تجلياته وتناقضاته ليس سوى صورة لذلك الكائن المُعقد.. الإنسان. لا أتخيَّلني متخليَّاً عن هذا الكتاب الذي شكَّل، بشكلٍ أو بآخر، وعيي منذ صغري.
المفصل في تأريخ العرب
الشاعر حميد قاسم وجد أن كتاب “المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام” لجواد علي هو من سيكون شريكه: “سأختاره لكوني اجتهدت كثيراً حتى حصلت على الطبعة الأصلية منه، ولأنه كتاب ذو منهج علميّ رصين ويتناول الكثير من المسكوت عنه في تأريخنا بموضوعية نادرة”.
سأنقذ ذكريات طفولتي
الشاعر فارس حرام سيتخيل لو أنه سيملك تلك اللحظة حقيبة تكفي لإنقاذ عدد – محدود- من الكتب: “بالنظر إلى أنني لست من هواة جمع المخطوطات والكتب النادرة فإنّ أوّل الكتب التي سأنقذها تلك المرتبطة بسنوات المراهقة وذكريات القراءات الأولى، كنهج البلاغة وديوانَيْ المتنبي والجواهري وديوان أدونيس “كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل”، لأنها تتصل بأعماقي على نحو طفوليّ، في حين سيكون البعض الآخر مما أنقذه كتباً أصبحت نقاط تحوّل في أفكاري أو في نهج تفكيري نفسه، لعلّ في مقدمتها كتاب “علم اللغة العام” لفرديناند دي سوسير، الذي أصبح لاحقاً منطلقاً لظهور البنيوية والسيميائية، إذ تعلمت منه الفارق الجوهري بين النظر إلى الأشياء والوقائع من زاوية تعاقبية تاريخية، والنظر إليها من داخلها نظرة “مقطعية” تبتعد قدر المستطاع عن التعاقب التاريخي، أقول تعلمت الفرق بين هاتين النظرتين ولا أقول إنني أصبحت بعد هذا الكتاب بنيوياً. الكتاب الآخر: “أصل الأخلاق وفصلها” أو “جينالوجيا الأخلاق” للفيلسوف العظيم نيتشه، (أتمنى أن أنقذ كتب نيتشه كلها)..
يقولها بمزاح لأنّ الحقيبة لا تكفي!
يضيف حرام “أتمنى أيضاً أن أنقذ كتاب ابن عبد ربه “العِقد الفريد”، بالرغم من أنه مستلّ جوهرياً من كتاب الأغاني الذي سبقه أبو فرج الأصفهاني في تأليفه، إلا أن العقد الفريد فريد فعلاً في بابه، يطلع المرء المدقق على الروح التي تحكم الطبقات الحاكمة عند العرب، وكيف يستعبد بعضهم بعضاً ويتخاصمون ويتصالحون، وما الذي يفرحهم وبحزنهم”.
الكتب كثيرة لكنّ للشاعر حرّام كتاباً أخيراً يريد الاحتفاظ به: “آخر الكتب التي سأنقذها بلا تردد كتاب “نشوار المحاضرة” للقاضي التنوخي، فهو فريد أيضاً في بابه، يوثق بطريقة مدهشة أحداث الناس العاديين في المجتمع العربي والإسلامي القديم، إذ ذهب إلى قصص المفارقات في الحياة، عند أناس حقيقيين من دمٍ ولحمٍ يعيشون على هامش التاريخ، فهو كتاب لتأريخ ما هو هامش على التاريخ”.
كتاب يوسا
جنى الحسن، كاتبة لبنانية، روايتاها “طابق ٩٩” و”أنا هي والاخريات” رُشحتا للبوكر القائمة القصيرة. قالت: “سأنقذ رواية “شيطنات الطفلة الخبيثة” لماريو فارغاس يوسا، وهناك هناك روايات أخرى ربما أفضلها عن غيرها، لكن هناك علاقة خاصّة تربطني بهذه الرواية. لا أستطيع تحديد هذا الرابط، لكني أعتقد أن الكاتب نجح في تصوير شخصية مذهلة هي بطلة الرواية، لحدّ أنّي أشعر بها حقيقية وبنوع من التعلق بها والتعاطف معها. أشعر ربما لو أنقذت الرواية، أنقذت بطلتها أيضاً من الموت الذي انتهت إليه”.