(رأس الهرم) بين الجواهري وعلي الشرقي هل فيكم من يقول للشعبوية: مرحباً؟
محمد غازي الأخرس
رائع هو العمل الذي كتبه أحمد وحيد وأخرجه مصطفى حكمت وتابعته بشغف مؤخراً. المقصود مسلسل (رأس الهرم)، الذي دارت ثيمته حول آلية الانقلاب بوصفها حلاً لابد منه للخلاص من الطبقة السياسية الفاسدة. فكرة قديمة ـ جديدة لطالما داعبت أذهان الشعبويين ممن يؤمنون بالحلول الثورية التي تنتهي غالباً بالقفز على القوانين والدساتير، ودائماً ما يلجأ القائمون بها إلى العنف لتحقيق مبتغاهم.
شخصياً، تابعت العمل مع تحفظي الشديد على انقلابيته. ولئن كنت رافضاً للفكرة الرومانسية الدامية، كما ظهرت في المسلسل، فإن ذاكرة الثقافة العراقية مليئة حد الشبع بمن طبل لها وحمل المباخر في مذبحها. فالشعبوية جزء لا يتجزأ من الثقافة عندنا، ولطالما تجسدت في قصائد ومقالات وروايات ومسرحيات.
بيني وبينكم، بينما كنت أتابع المسلسل البديع، حضرت في ذهني ملاحظات كنت دونتها عن موقفين ثقافيين متناقضين من أول انقلاب شهده العراق والعالم العربي، ألا وهو انقلاب 1936 الذي خطط له ونفذه الجنرال بكر صدقي.
آنذاك، رأى الجميع المشهد العجيب؛ هدير الطائرات يتعالى في سماء بغداد يوم 29 تشرين الثاني عام 1936، والسكّان المندهشون يتلقفون مئات المناشير من جو مكفهر. الأمر موجّه للملك غازي: سرّح وزارة ياسين الهاشمي، وكلّف حكمت سليمان بتأليف أخرى، والتوقيع: بكر صدقي ـ قائد القوة الإصلاحية.
المهم أن الانقلاب نجح، ودخل حكمت سليمان قصر الحكومة ليشكل وزارته، وكان إلى جانبه رموز من ذوي البدلات الليبرالية ـ اليسارية، ومنهم جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي ومحمد حديد الذين انتموا، قبل الانقلاب إلى جماعة الأهالي، والأخيرة أسسها عدد من المثقفين من أمثال عبد القادر إسماعيل وحسين جميل وعبد الفتاح إبراهيم وغيرهم.
الجواهري بصيرة
لم يكن الانقلاب حدثاً عادياً، بل مثّل لحظة انفجار لصراع اختمر طويلاً بين تيارين سياسيين وثقافيين، الأول تيار عراقوي ذو مزاج يساري، شعبوي، يؤمن بالثورة لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويعتقد أنّ أكبر خطر يواجه العراق هي الحركة العروبية التي كانت قد ترسّخت وأكلت المؤسستين العسكرية والتعليمية. وخلال أشهر، خيّمت غيوم الخوف على سماء البلد، وهرب القوميون كلّ تحت نجمة، حتى أن ياسين الهاشمي، رأس رمح العروبيين، توفي بحسرته في دمشق. هنا، شرع القوميون بتهيئة الأجواء للانقضاض. وبالفعل، لم تمر سنة حتى اغتالوا بكر صدقي في الموصل وعادوا أقوى مما كانوا. لكن قبيل الاغتيال، التمعت عينا محمد مهدي الجواهري لتستبصر القادم، فنشر في جريدته «الانقلاب»، قصيدة نقلت مزاج المرحلة الحافلة بالمخاوف، المنبئة بأيام انتقام آتية على أجنحة الكراهية والحقد قلّ نظيرها. كانت القصيدة موجهة الى حكمت سليمان، تحذر ضمنياً من حلف في طريقه إلى التشكّل لدحر الانقلابين، وهو ما جرى فعلاً. وبحسب نصائح الجواهري، كان يفترض بسليمان قطع دابر أولئك دون رحمة لإفشال مسعاهم. يقول:
أقدم فأنت على الإقدام منطبع
وابطش فأنت على التنكيل مقتدر
لا تبق دابر أقوام وترتهم
فهم إذا وجدوها فرصة ثأروا
وثمّ شرذمة ألفت لها حجبا
من طول صفح وعفو فهي تستتر
تهامس النفر الباكون عهدهم
أن سوف يرجع ماضيهم فيزدهر
فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا
عما أراقوا وما اغتالوا وما احتكروا
فضيّق الحبل واشدد من خناقهم
فربما كان في إرخائه ضرر
ولا تقل ترّة تبقي حزازتها
فهم على كل حال كنت قد وتروا
كان الناصح انتقامياً مرعباً، يحذر من الخصم ويدعو لاستئصال شأفته قبل أن ينقض هو، وإنه لمن المثير للتأمل أن تستعاد القصيدة ذاتها أمام الزعيم عبد الكريم قاسم، محذرة من القوميين أنفسهم. وفي المرتين، لم يحسن الزعيمان، سليمان وقاسم، الاستماع للنصح.
تذكير الشرقي
بإزاء قصيدة الجواهري التي استبصرت حقيقة الصراع القائم والقادم، ثمّة موقف آخر مختلف تماماً، مثله متنورون استشرفوا خطورة ما جرى في العراق وما سيجرّ عليه في المستقبل. من هؤلاء الشاعر علي الشرقي، ابن عمّة الجواهري. لقد بدا هذا الشاعر مختلفاً كثيراً، لأنه كما يرى يوسف عزّ الدين «لم يكن من ضاربي طبول الزلفى والتقرّب إلى الدولة والشعب». أي أنّه لم يكن يلهث خلف أحد، لا خلف الحكومات ولا خلف الرعاع المخدوعين أبدا بالحكومات والأحزاب. بموازاة تحذير الجواهري الانقلابيين من تربّص أعدائهم بهم، انطلق صوت الشرقي لينذر هو الآخر، لا الانقلابيين ولا خصومهم، بل الشعب مما سيأتي. فهؤلاء الذين جاءوا بالقوّة إلى دست الحكم، بكر صدقي ورفاقه، ليسوا سوى مثال خطير للفوضوية، يقول الشرقي:
يا أهل أقراص الشعير تحمّلوا
عنتاً يصارعكم على الأقراص
سيجيء دوركم على الباغي الذي يرجو المناص ولات حين مناص
هذي القصور من الخصاص تشيّدت ولعلها مهدومة بخصاص
كانت قصيدة الشرقي تصدر، كما هي أغلب قصائده، من رؤية اجتماعية عُرف بها، وتقوم على التذكير بالمظالم وغياب العدالة والمساواة. ولئن تعاطى الآخرون مع هذه الرؤية بجدية تصل إلى العنف، فإنّ الشرقي وظفها للخروج بحقيقة تشاؤمية أثبتت صدقها مرات ومرات: لا أمل في بلد يحكمه العصاة والدهماء والخبّاصون:
وبليّة الأحرار أن يتحمّلوا
لرعونة الدنيا إطاعة عاص
دهمتهم الفوضى العسوف
يقودها بالطيش خبّاص إلى خبّاص
بغداد ودعت النظام وأهله
فاستقبلي قومي نظام رصاص
مشهد أخير
في (رأس الهرم) ينتهي المشوار بتداخل أصوات الانقلابيين، جبار واثب (أحمد وحيد) وقاتله أدهم غازي (يحيى إبراهيم)، البيان نفسه يقرأ من الاثنين، والدم ذاته يسفح.. في كل مكان وزمان، بسيف هذه القصيدة أو رمح ذلك الخطاب.