
تاج الحروف.. جمال البناء والشكل
د. جمال العتّابي /
تكمن جاذبية الحرف العربي، كي يصبح وسيلة للتعبير، في مغادرة شكله التقليدي.، نقطة البدء تعود إلى مهارة الخطاط العربي في تشكيل رؤى بصرية جديدة وتشكيلية قاعدتها الخط العربي، يقف خط الثلث في مقدمتها.
ما كان لخط الثلث أن يبدأ بغصن واحد، عربي القلب واليد واللسان، ثم إذا به ينتهي إلى شجرة وارفة الظلال، يانعة الثمار، على يد نخبة من خطاطي المدرسة العراقية، ورائدها هاشم محمد البغدادي. هذه إشارة أولى لمن يريد أن يفهم سر العبقرية لهذه الشخصية المجددة، ولمن سبقه من فنانين مبدعين أجادوا في رسم الحرف ومشقه.
ولا ريب في أن راهنية المرحلة من الثراء الشكلاني تتسع إلى التعامل مع هذا النمط من الخط، كفن تشكيلي بامتياز، ذي مقومات جمالية وإبداعية تنتمي إلى قوة التركيب، والفضاء، والإيقاع، والحركة والتأليف، والتوازن البصري، وذلك راجع إلى تنوع الخطوط العربية وتعدد أشكالها بسبب قابليتها للتدوير والتمديد والإزاحة والإطالة. نجمت عن ذلك ابتكارات جديدة عبر قابلية الحرف للتصميم والتراكيب الجمالية. وأثبت خط الثلث قدرته على إنتاج جماليات تحديثية، بمقتضاها يؤسس لنفسه مفاهيم تاريخية وتطورية، تقيهِ من الانغلاق الحرفي. والتجارب الإبداعية العراقية في هذا المجال كثيرة، بدءًا من إنجازات ياقوت المستعصمي الباهرة، مروراً بالتحولات اللاحقة التي ازدهر فيها الخط على يد مبدعين آخرين، وانتهاءً بنضج (الثلث) وارتكازه بصورته المثالية على يد هاشم البغدادي.
حوار موسيقي
حرف (الحاء) المفرد الملفوف، بما يمتاز به من صعوبة في الكتابة وجمال البناء والشكل، يعدّ مقياسًا مهمًا لمهارات الخطاط وجودته في الكتابة، وطالما تبارى الخطّاطون في الكشف عن مواهبهم في محاولاتهم لجذب الخيوط السحرية غير المنظورة لهذا الحرف، الذي يطلق عليه تسمية (تاج الحروف). هذه المحاولات التي تتلخص في كيفية امتلاك القدرة الواعية على إيصال نبض الحياة بين المادي والروحي، بين الإضافات الجمالية والتأليف الفني. وهنا أدعو الإخوة الخطاطين إلى التجرد من القوالب الشكلانية المعروفة التي تسود أعمالهم، والتوجه نحو إنارة الأعماق والمنابع، والبحث في تشكيل الحرف وأبعاده الخفية. والخطاط ملزم بخلق عالمه الخاص المتحرر من القيود، ليكوّن سماته الشخصية، فالحرف لِوحده قيمة فنية، يمنح الخطاط الفنان قدرات في البحث عن جوهر الخطاب الفني للحرف. بمعنى آخر، أقول إن بإمكان الفنان أن يعيد ترتيب الحرف سايكولوجياً، من خلال التأثير الناتج عن الحركة والإيماء.
إن الخصائص الداخلية لتكوين حرف الحاء تقودنا إلى قراءة جديدة لتشكيلات خطية، يصبح فيها الحرف منظورًا بصيغ ونهايات جديدة تخدم التركيب الإنشائي العام للحرف في امتداداته، وإنحناءاته، وفضاءاته، بحوار موسيقي، كلًا متفاعلًا متناغمًا لا تجزئة فيه، ولا انفصالات. هو الدهشة التي يقول عنها أرسطو إنها أول المعرفة.
قيم فنية
حرف الحاء بناء معماري تتجسد فيه مفردات البناء الهندسي، والباحث في هذا الميدان قد لا يجد صعوبة في المقارنة بين الاثنين، فثمة ما يلفت الانتباه إلى التشابه الواضح بين طريقة تفصيل أجزاء العمارة أو تشريح الحروف، على حد سواء، وانتمائهما إلى الفن البصري معاً، وإذا تسنى لنا أن نتأمل التركيب والبناء للحرف، سنجد أنه صمم على وفق أسس تتسم باستخدام قوانين الحركة والسكون. وفن العمارة يمنح الإنسان دائمًا شعورًا بالجلال حينما يغمد جسمه في فراغها الداخلي. وهذا ما يريده خطاط (الحاء) وهو يدرك، بحسّه الفني، مدى عمق القيم الفنية الجمالية في الحرف، ومدى أصالته، مثل أي فنان تشكيلي يعمل على ملء الفضاء بالحلول الفنية والتشكيلات المناسبة، رصيده في ذلك إحساسه وذوقه الفني، ومهاراته التي تنضج بالممارسة والتجربة والمثابرة.
ميزان الحروف
إن كل حرف هو شكل معماري، يتضمن عشرات الحركات والهيئات الداخلية الكامنة، وهذا ما يستدعي إيجاد ضوابط وموازين، بمثابة المرجعية الواضحة المحكمة الضامنة للمحافظة على جمالية الحرف في انطلاقاته اللامحدودة، والانسياب المتناغم المتحقق فيه. إن ميزان الحروف المتمثل بـ (النقاط)، الذي وضعه الخطاط ابن مقلة (ت 908م)، يعتمد نقطة الميزان بعرض القلم، كوحدة قياسية، وفكرة ميزان الحروف، كما يرى بعض الباحثين، كانت مبنية على معطى فلسفي يقول: إن الإطار الأساس لرسم الحروف العربية، هو الدائرة، وإن لكل حرف نسبة منها، هو دائرة مكتملة، لذلك يتوفر على أعقد هندسة ميزان لحرف في أنماط الخطوط العربية الأخرى، خط التعليق، مثلًا. ومتعلم الخط العربي يبقى بحاجة دائمة إلى وزن حروفه، مفردة ومركبة، لتطوير مهاراته في هذا الفن. وهناك ست مراحل، أو خطوات، لرسم حرف الحاء، تبدأ من سحب القلم من اليسار إلى اليمين بشكل منحن قليلًا بطول ثلاث نقاط، وانتهاء بالسادسة، وهي دفع القلم إلى الأعلى والتوائه يسارًا بانحناء نقطة واحدة من الداخل ونصفها من الخارج، ومن ثم دفعه الى اليسار منسابًا برأس مدبب، حيث الفضاء الفسيح واستقصاء أبعاده.
إنها عملية ولادة، ترقّب وطَلَق، معاناة وعاطفة. الحرف مولود يتحرك، يومض، يبعث الأصوات. يولد الحاء وهو يحمل صناديق أسراره، باكتماله يتدفق بهدوء، تبدو استداراته كما لو كانت معقلًا حصينًا لا يناله الأعداء، وهي في ذات الوقت أنيسة رطيبة الظلال، تحمل تاريخ مولدها، تدور مع الزمن، تتناقلها الأجيال.