طقوس الكتابة بين الغرابة والفرادة

20

رجاء الشجيري /
الكتابة ترف فكري، وأداة تعبير خاصة ضمن نتاج إبداعي استثنائي، لذا فإن لكل كاتب وأديب استحضاراً وطقساً وأجواء خاصة، ليتهيأ لرسم عالمه على الورق، وفيما يلي استطلاع لروائيين وشعراء تحدثوا لـ “الشبكة العراقية” عن طقوسهم في الكتابة.

شواهد عالمية
كان العقاد وأنيس منصور لا يكتبان إلا عندما يرتديان البيجاما! كما أن العقاد لم يكن يكتب إلا بالحبر الأحمر، فيما اعتاد أحمد شوقي الكتابة على أي شيء أمامه، إذ كتب مرة على منديل، وعلى علبة سجائر، وقيل أن محمود درويش، كتب قصيدته (أحن إلى خبز أمي)، على علبة سجائر أيضًا.
أما عالميًا، فكان إرنست هيمنجواي لا يكتب إلا وهو واقف، وينتعل حذاءً أكبر من مقاسه، في حين كانت أفكار روايات أجاثا كريستي لا تأتيها إلا في الحمّام، واعتادت إيزابيل اللّندي بدء المباشرة بكتبها في الثامن من كانور الثاني.
طقس وموعد
للروائيين والشعراء العراقيين طقوسهم الخاصة، ومنهم الكاتب إبراهيم أحمد، الذي ما زال محافظًا على عادة غسل يديه ببضع قطرات من عطر يحبه قبل الكتابة، مع تأكيده على عدم قدرته على الكتابة أن كان مهمومًا، أو كان ثمة ضجيج حين يكتب.
يقول القاص أنمار رحمة الله: “أحرص جدًا على أن تكون طقوس الكتابة مكتملة عندي، فأنا أتوقف عن الكتابة يوم 1 أيار، وأعود للكتابة في يوم 1 من شهر تشرين الأول من كل عام، إذ أعتبر الصيف عطلة أتفرغ فيها للقراءة ومشاهدة الأفلام وغيرها.” مشيراً إلى أنه يكتب في الخريف والشتاء والربيع، ويمتنع نهائياً عن الكتابة في فصل الصيف، مضيفاً: “ثم إذا جاء اليوم الأول من تشرين الأول، الذي يلي عيد ميلادي بيوم واحد، أبدأ بكتابة الأفكار التي دوّنتها في سجل الملاحظات، حيث لا أكتب إلا صباحاً عند الساعة 8، وقبل الكتابة أستحم، ولم أكتب قصة في حياتي إلا وكانت الموسيقى حاضرة معي، فلكل قصة كتبتها هناك مقطوعات موسيقية تكون (باك كراوند) أو (موسيقى تصويرية) لأحداث القصص، ولأنني أعتمد بشكل كبير على الموسيقى بضبط إيقاع التصاعد والحدث الدرامي داخل النص، أحرص على كتابة القصة في جلسة واحدة، ثم أتركها لمدة ثلاثة أيام وأعود إليها لتنقيحها أو للتعديل عليها حسب الحاجة.” موضحاُ أنه حين نشرها لا يعود لقراءتها لاحقاً إلا ما ندر.
الإصغاء للسر
«ربّما كنتُ أغبطُ الشعراء الذين لديهم طقوس في الكتابة، إنّها تخبرهم بأنها آتية.» هكذا بدأت الشاعرة أفياء الأسدي حديثها عن طقوس الكتابة، لتكمل: «ربّما الشعراء يحضّرون مشروباً ساخناً ليشاركهم الكتابة، أو يفعلون شيئًا يعرفونه، شيئًا مألوفًا بما يكفي ليطمئنوا إليه قبل الكتابة، أنا لستُ محظوظة هكذا، طقسي الوحيد – إذا كان يسمّى كذلك – أن أصغي للقصيدة التي ركلتِ الحائط للتوّ، ودخلت دون أن تطرق الباب.» موضحةً أن طقسها الوحيد، التمسك بذلك الصداع، والإصغاء لها، «قصيدة ماكرة متسلّلة بكيد يُحترم، تغنّي بصوت مثل صوت جنّيات الحقول الساحرات، وعليّ أن أكون مصغية وراضية ومستسلمة تماماً لصوتهنّ، وأن ذلك ما يأخذها عما حولها لحظة الكتابة.» مضيفةً: «واجبي النفسي والأخلاقي تجاهها وتجاه نفسي، ألا أضع العوائق بينها وبين يدي المدوِّنة، واجبي أن أصغي لذلك السرّ الذي يخشى أن يُقال فيكشفني ويكشف نفسه، ذلك الذي يجب أن يقال بحذر وصدق، هنالك سرّ بعيد في كل كاتب، يضع منه القليل في كلّ قصيدة، إنّها أحجية ثمينة أن تعرف أماكن أسرارك في القصائد العديدة، ويعرفها ايضا قارئك الفطن، في الوقت الذي تعيش فيه قصيدة طويلة داخلك تمتدّ من أوّل عمرك حتى آخره.”
(الأسدي) تشير: «ربما كان لديّ طقس سابقًا، حين كنتُ أدري أين أنا حين أكتب، ربما، لكن اليوم؛ الإصغاء لصداع الرأس وصدع القلب هو طقسي الوحيد في الكتابة.”
مهمة صعبة
في حين تحدث الروائي سعد سعيد عن لذة الكتابة قائلاً: “ما الطقوس إلا رغبات تنتاب الكاتب الذي يفضل الالتزام بها، لأنها تمنحه المزيد من الراحة التي تساعده في إنجاز مهمته بتحويل أفكاره إلى نصوص تقرأ، فالمتعة قيمة أساسية في الرواية، وتتشابه في حالتي الكتابة والقراءة، وإلا ما الذي يجبر الكاتب على القيام بتلك المهمة الصعبة لو لم يجد في ما يفعله لذة؟” موضحاً بأنه (ملول) إلى درجة ما، ولذلك كانت طقوسه تتغير في كل فترة، وما زال يتذكر لذة بري أقلامه الرصاص الثلاثين، قبل أن ينغمس في جو الكتابة، مضيفاً: «لكن ذلك تغير عندما أبدلت أقلام الرصاص بأقلام الجاف، التي أجهدت نفسي في البحث عن أفضل أنواعها، لأن لذة نعومة احتكاك رأس القلم بالأوراق عظيمة، وتجعلني أحب ما أفعل، قبل أن أعود إلى عشقي القديم، وهو قلم الحبر الذي كان أول الأنواع التي اكتشفت لذة الكتابة بها، وما زال هو رفيقي لحد الآن.»
وأوضح (سعيد): «حين لم أكن أمتلك مكتبًا في البيت لأكتب عليه، كانت اسفنجتي رفيقتي التي أحب، وحين يأزف وقت الكتابة كنت أتناولها برقة ومحبة وأفرشها في وسط الصالة لأنبطح عليها، وأبدأ طقس الكتابة اللذيذ، والغريب في الأمر هو أنني، وبعد أن توفرت لي المكتبة والمكتب في البيت، استهوتني فكرة الكتابة في المقهى، حيث أنجزت آخر خمس روايات لي! فبعد تناولي فنجان القهوة، أستخرج أوراقي وقلمي، أفتح الموسيقى في موبايلي، وأضع سماعاتي لأنفصل عن الضوضاء المحيطة بي، وأنطلق في دنيا الخيال.»
رائحة البراءة
أما الشاعرة راوية الشاعر، فأعلنت أن فعل الكتابة اللذيذ يكون في صور الحياة المتعددة، موضحةً: “لا أملك طقساً معيناً للكتابة، أحياناً أكتب وأنا جالسة في باص (كيا)، أحدقُ في الطرقات، ووجوه المارة وعمال (المسطر). الكتابة تعلمنا درساً في التواضع، كم مرة كتبت وأنا أغسل الصحون، وأنا أمسح حذاء طفلي، أكتب حين يترك فيلم ما بصمته في روحي، حينما أنظر لتجاعيد أبي وقوة أمي على تحمل أوجاعها، أكتب، أكتب وأنا أمرر للكون رائحة البراءة في كل طفل أنجبه، فالكتابة خليط رائع من الحزن والفرح، من الجمال والقبح، من العدم والوجود.”