الواقع… رواية رديئة
عادل محمود/
قبل ثماني سنوات جلست في هذه الغرفة، وعلى هذه الطاولة في هذه المدينة الجميلة الهادئة “صلنفة” (سورية) متخذاً قراراً لا رجعة فيه، أن أكتب رواية خلال عشرين يوماً، لأتقدم بها إلى جائزة “دبي الثقافية” وقيمتها 15 ألف دولار.
الوقت المتبقي لي لإنجاز الرواية وطباعتها وإرسالها27 يوماً. وهكذا جلست أمام أوراقي الفارغة، ورأسي المزدحم لأعرف كيف أبدأ.
لم يسبق لي أن حاولت كتابة رواية، ولديّ فقط 5 دواوين شعر وكتاب نثرـ مقالات صحفية.
مضى يومان وأنا أمشي مسافات طوال في الغابة، وأعود برأس مليء بالخيارات لبدايات مرتبكة. وكلما تعددت الخيارات صارت البداية أصعب. وأخيراً قررت الانسحاب من المباراة قبل أن تبدأ. فتركت نفسي منقسماً بين سعادة الخلاص من العبء، وبين همّ الديون المتراكمة ولا سبيل إلى الوفاء بها، فأمضيت مساءً جميلاً حزيناً، راضياً وساخطاً، صائباً خائباً… وفي اليوم الثاني وفيما أستعد للرحيل إلى دمشق أردت أن أعرف أين هي المشكلة؟ فتبين لي أن المشكلة في تحديد نوع الرسالة ومضمونها…الرسالة التي ربما كان لها اسم أفضل: الفكرة، التي يخرج ، معها وبها القارئ من رواية، أو العبرة، أو…القول، أو أية تسمية ثقيلة العيار في تقنية الرواية. واكتشفت أنني أضع للقلم مهمة اختراع العالم، أو القسم المضيء منه، أو مديح الخير وكراهية الشر، أو وضع الأشخاص في مأزق وإيجاد حلول لهم. أو التبشير بتحسن طفيف في أداء الرسل. أو تمجيد الإنجاز غير المكتمل لبشرية متعثرة.
واكتشفت أن بوسعي الثرثرة الحرة، والحكي فقط ومن دون عناء، كما لو أنني أمام أذن تم استئجارها، حيّة ومصغية، لكي تبوح لها ما في نفسك من حرمان استماع متلذذ ونزيه ومزمن.
عدت إلى الطاولة، وبدأت بحكاية رجل أراد العودة إلى مسقط رأسه ليحفر قبراً له، آمراً حفاري القبور بأن يكون الحفر بالعمق لميت يدفن واقفاً. وعندما استغربوا، قال لهم:
شاعر غجري كتب قصيدة يقول فيها
ادفنوني واقفاً ..
فلقد أمضيت حياتي كلها،
راكعاً على ركبتي..
…………………..
هذا قبل ثماني سنوات…والآن أجلس بذاكرة مثقلة بالذي حدث في هذه المدينة وهذه البلاد، وأحاول أن أكتب شيئاً ما. ولكن لا شيء سوى الحسرة على تلك الأيام، سوى الفراغ، فقررت أن أستعيد تلك اللحظات المرتبكة، المليئة بعدم اليقين، ولكنها التي تجلب، وهي تعبث بالتواريخ والأمكنة، نوعاً من السعادة: السعادة أنك حي، وما دام الأمر كذلك…سأفرش هذه الطاولة بأوراق…يمكن أن توضع في ذلك “القبر الافتراضي” ،الذي قمت بحفره، ولم يستعمله صاحبه ، بعد، لأنه ما زال واقفاً خارجه.