حينما لايقاوم السارد شهوة الكتابة !

990

محمود الغيطاني/

ليس بوسع العديد من الساردين الذين تتملكهم شهوة الرغبة- مقاومتها؛ فيبدأون الكتابة السردية حتى لو لم تكن في أذهانهم الفكرة السردية الناضجة، وكأنما الأمر يشبه حالة من الفيضان الذي لا ينتهي لدى السارد، ورغم أن هذا السارد يمتلك الكثير من مقومات الكتابة الإبداعية من لغة، وعالم إبداعي، وأسلوبية، وبناء.

إلا أن كتابته قد تؤدي به في النهاية إلى الفراغ الذي يجعلنا نتوقف كثيرا بعد الانتهاء من قراءة العمل لنتساءل: ما الذي رغب الكاتب هنا بقوله، ولم كان كل هذا المجهود، أو هذه الرغبة في الكتابة التي أدت بنا في نهاية الأمر إلى الفراغ؛ لتتركنا في حالة حقيقية من الدهشة غير قادرين على اتهام الكاتب بأنه خال من الموهبة، أو غير قادر على بناء عالم إبداعي حقيقي، لكننا في نفس الوقت غير قادرين على التأكيد بأن هذا العمل الذي قرأناه بمثابة عمل إبداعي متكامل أو جيد.

أي أن هذه الحالة من الفيض السردي تترك العمل الإبداعي في نهاية الأمر في منطقة وسيطة بين الجودة والاكتمال من جهة، وبين الفراغ الذي لا يمكن أن نُطلق عليه ضعفاً فنياً بقدر ما يمكن أن نُسميه عدم الاكتمال.

أدوات الكتابة

مثل هذا الكاتب في حقيقة أمره هو مبدع حقيقي، قادر على بناء العالم الفني الذي يريده، ويمتلك من أدوات الكتابة ما يساعده على الكثير من الإبداع، لكنه تتملكه حالة من الرغبة في الكتابة فقط، حتى لو لم يكن يمتلك عالمه الإبداعي الذي بدأ فيه بشكل كامل؛ ما يؤدي به في النهاية إلى مثل هذه الحالة التي تحدثنا عنها، وهي حالة من الممكن أن نُطلق عليها تجاوزا: حالة البين بين، أي أنه في المنطقة المتوسطة التي تجعلنا في حالة عدم اليقين من اكتمال العمل أو نقصانه؛ فثمة شعور مقلق ينتابنا دائما تجاه عمله يؤكد لنا أن هذا العمل ينقصه شيء ما رغم وجود أدوات السرد الإبداعي.

هذه الحالة من الكتابة الشهوية –إذا جاز لنا التعبير- هي ما يمكن أن نلاحظه في المجموعة القصصية “لم يكن ضحكاً فحسب” للقاص العُماني محمود الرحبي؛ فثمة حكاية غير مكتملة معظم الوقت حتى أننا بمجرد انتهائنا من قراءة كل قصة من قصص المجموعة نعود إليها مرة أخرى للتأكد من أن شيئا لم يفتنا فأدى بنا إلى هذا الفراغ أو الشعور بعدم الاكتمال. إذا ما تأملنا القصة التي تحمل اسم المجموعة سيتأكد لنا أن هناك عالما قصصيا بالفعل لا يمكن أن ينكره أحد، كما أن القاص هنا يمتلك أسلوبيته ولغته التي تخصه من خلال عرض الراوي لماضي أحد الشعراء الذي طلب أن يقابله كي يهديه ديوانه الوحيد في الشعر العمودي، ومن خلال عبارة “سجن الجلالي” التي قرأها الراوي مذيلة في نهاية إحدى القصائد ينطلق السرد إلى الماضي من خلال حكي الشاعر للسارد عن ماضيه الذي قضى منه فترة طويلة من عمره في هذا السجن المرعب الذي كان يخافه الجميع بسبب حكايات التعذيب فيه: “حيث كان يُنسى المسجونون معلقين على حافة هاوية؛ سنون طويلة يتوقف فيها الزمن في الظلام ويمحى الكلام، ويتحول اليوم الواحد إلى ألف ساعة سوداء لا بريق يلوح في نهايتها، وأيام من الضجر يُشكل فيها عبور صرصار محمولاً على أكتاف حشد من النمل حدثاً لا يُنسى.” يتحدث الشاعر عن الويلات التي لاقاها في سجن الجلالي ويصف الحياة فيه، ثم يتحدث عن ذكرياته حينما تم نقله هو وزملائه إلى السجن المركزي بالرميس بعد سنوات وكيف كانت المداخل والمخارج الواسعة والنظيفة لهذا السجن تصيبهم بالضجر؛ حيث كانت الأقبية متباعدة؛ ما جعل لقاءات المساجين متباعدة. يتحدث فيما بعد عن حالته حينما خرج من السجن وبدأ في رحلة البحث عن عمل: “واجهت صعوبة. كنت أُرفض بمجرد ما تُسمع سيرتي، وقد مر وقت طويل قبل أن أجد عملا في غرفة التجارة والصناعة. ثم تم الاستغناء عني، لأجدني أعاود البحث. وفي وزارة الإعلام لم أمكث سوى شهور قليلة قبل أن يتم تسريحي لدواعٍ أمنية. وذات يوم كتبت رسالة إلى وزارة الداخلية أطلب فيها عملا. تركت في ذيل الرسالة عنوان سكني في منطقة (دار سيت) حيث استأجرت غرفة”، لتنتهي حكايته بقوله: “وهكذا ظللت أعمل في وزارة الداخلية حتى تمت إحالتي إلى التقاعد.”

السخرية المريرة

قد نلاحظ من خلال هذه القصة شيئاً من السخرية المريرة التي يرغب الرحبي في نقلها لنا، حيث لاقى الشاعر الكثير من العذاب والهوان في العديد من السجون على يد الداخلية، لكن السخرية تتضح في أنه لم يستقر في عمل من الأعمال إلا من خلال وزارة الداخلية والعمل فيها، أي أن الجلاد هو من ساعده على الحياة فيما بعد، ولكن أين يكمن النقص هنا؟
إذا ما كان الرحبي قد اكتفى من السرد بذلك، أي سرد الماضي لهذا الشاعر ومعاناته ثم تكون النهاية هي المفارقة في عمله في وزارة الداخلية لكانت القصة هنا مكتملة؛ فالقصة فيها الكثير من الإنسانية ورغبة الشاعر في التغلب على ماضيه القاسي، لكن المؤلف أكد غير مرة على أن الشاعر حينما كان يحكي، أو ينتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى كان يفصل ذلك بفاصل من الضحك غير المبرر، فحينما قال له الراوي: “ما كنت أعرف أنك سجين قلعة الجلالي”، كتب الرحبي: “استجابة لجملتي، أرسل عدة قهقهات من صدره متبوعة بسعال”، وسنلاحظ هنا أن الضحك لا مبرر له، ولكن من الممكن أن نتجاوزه بدعوى أنه احتار في شرح الأمر فتغلب على حيرته بهذا الضحك، لكنه عاد في مقطع آخر ليكتب: “بعد أن هدأت سعلاته، أخرج حروف كلماته ممزوجة بالضحك. وكأن الحديث عن الماضي لا يستقيم بدون هذا الشعور، فعبث المصير القاسي لا يمكن استدعاؤه بالحسرة وحدها، وإنما بالسلاح الأكثر فاعلية.. الضحك”، ثم يقول مرة ثالثة حينما يخبره الشاعر بأنه كان يعمل في وزارة الداخلية: “ختم عبارته الأخيرة (التي لا أظن أن فيها ما يمكن أن يُضحك) بضحكة مديدة أطالتها دفقات سعاله.”

إفساد السرد

لا يمكن إنكار أن السارد حرص على تأكيده على الضحك هنا أكثر من مرة، وهو ما كان من الممكن أن يستغني عنه وتظل الحكاية مكتملة بالمفارقة في النهاية، إلا أننا نستطيع تبرير التركيز على الضحك باعتباره مرارة كالعلقم يشعر بها الشاعر، وهو ما يجعله يضحك على ماضية البائس غير المضحك، لكن الكارثة التي افتعلها الرحبي هنا أنه أفسد القصة بالكامل واتجه بها نحو المباشرة والكشف وكأنه كان يشرحها للقارئ مفسرا لها في النهاية، أي أنه تحول بها إلى التلقينية، أو محاولة اكتساب العبرة حينما كتب: “واتتني رغبة ملحة في الكتابة، وتحديدا عن المعاني التي يمكن أن تخفيها تلك الضحكات التي كان يبثها بين الجمل ويقطع بها مراحل الزمن برشاقة. فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت أصابعي تنقر الحروف ببطء: لم يكن ضحكاً فقط، إنما الزمن وهو يقفز برشاقة بين القيود والجدران، لم يكن ضحكاً فقط، إنما السخرية من سنين ظلت تكرّ معزولة خارج تقويم الأيام، لم يكن ضحكاً فقط، وإنما مقص ماهر يشذب ما علق في الذاكرة من أشواك، لم يكن ضحكاً فقط، وإنما عكاز قوي يسند أيامه الباقية كي تتقدم خفيفة في الظل.”
من خلال هذه الخاتمة التي اختتم بها الرحبي قصته يتضح لنا أنه أفسد السرد القصصي الذي كان مكتملاً حينما بدأ في مثل هذا الشرح، وهو الأمر الذي لم نكن في أية حاجة إليه لأننا انتبهنا إليه من خلال المفارقة والسرد، ولكن يبدو أن المؤلف هنا يفترض عدم القدرة على الفهم لدى القارئ؛ فلجأ إلى التأكيد الذي أدى إلى كشف القصة والنحو بها باتجاه المباشرة والشرح حتى لقد بدا لنا الأمر وكأنه فيلم سينمائي دعائي يرغب من خلاله صانعه أن يعطينا الحكمة والموعظة في النهاية فانطلق صوت في الخلفية ليلقننا هذه الحكمة المستقاة من هذه القصة؛ ففسدت القصة والسرد الذي كان مكتملا، هذا فضلا عن التزيد الذي لا داعي له في جملته: “فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت أصابعي تنقر الحروف ببطء”؛ فعبارة “على صفحة بيضاء” لا معنى لها، ولا محل لها من الإعراب، وحذفها أوقع؛ لأنه بالتأكيد سيكتب على صفحة بيضاء، وإذا ما حذفناها ستستقيم الجملة.