لينا هويان الحسن.. تفتح مشروعها الروائي على المعرفة الموثّقة

1٬173

رولا حسن  /

هناك في تلك الأرض المتورطة سلفاً بلعب التاريخ، حيث السراب هو الحاكم الذي داس على رفات الماضي فيما الفراغ مثل ضباب لا مرئي يمشي ويتشابك مع الدروب ليصنع حيرة الإنسان، هناك تماماً حيث غافلت الروائية لينا هويان الحسن النسيان في رواحه ومجيئه واندست بين الخرافات، ومع الزمن أصبحت الخرافة أسطورة وحكايا، عرفت لينا كيف تعيد لها الحياة حين تكتبها حكايا نساء شغلن برمال الصحراء وصرن جزءاً لا يتجزأ من تاريخها ومفاصل هامة فيها مهتمة بهذا الجانب الأنثوي الذي أغفل طويلاً وذلك بغية إظهار صورة أخرى للبادية التي هي أخت الصحراء فتسبر أغوار العشائر الممتدة في بادية الشام من خلال نسائها المصنوعات من وضوح البادية وغموض السراب وتهيؤاته في محاولة جادة لإعادة الذاكرة لتلك البادية وردّ الجميل لأمكنة وأزمنة صنعت بجدليتها تاريخاً لا يستهان به، ثمة عوالم انزاحت عن المعروف، نساء لا نجدهن الآن، كنّ حرات بخياراتهنّ، رافضات الظلم النازل بهن ممتلئات بالحرية، نساء لم يقبلن تشُيؤهن، ولا قمعهنّ على الأقل ضمن المنظومة المعرفية المحاطة بهنّ، نساء جئن من التاريخ وثّقت لهنّ لينا من كتب معروفة استعانت بها في مقدمة كل فصل مثل كتاب (قبائل بدو الفرات) لليدي آن بلنت، ولفريد تسيغر في كتابه (الرمال العربية) وكتب أخرى عن مستشرقين عرفوا الصحراء كأوبنهايم، وغيره. فـ “حمرا الموت” ابنة شيخ عشيرة طي، وحكاية عشقها لأحمد بيك أبو ريشة أمير قبيلة الموالي، أشهر محاربي الصحراء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كذلك قطنة بنت الكنج شيخ عرب السردية التي تسببت بنشوء حرب بين عشيرة الرولا من العنزة وبني صخر، في الصحراء “ذلك المكان الذي يعطيك حرية إلى حد العصيان حيث الظباء لم تكن خرافة، ولم تكن الصحارى مشقوقة بإسفلت الطرقات، أو مشوهة بأعمدة الكهرباء كان هناك البدو أبناء الصحراء الخام، البدو الذين لم يلعبوا الشطرنج ولا البلياردو، ثمة لعبة واحدة فقط: القدر..” هناك أرسلت حمرا في طلب أحمد بيك الأبو ريشة دون أن يرف لها جفن ضد القدر، ضد المنطق، لا فرق ولا يهم “كانت تريده بكل ما أوتيت من شغف ومكر وثبات أعصاب..”نساء كثيرات عجنتهن لينا من رمال الصحراء، استحضرت قسماً منهن من التاريخ الحقيقي لهذه الصحراء ثم مزجت الجانب التوثيقي بالجانب التخييلي لتخرج المرأة البدوية من الصورة السائدة والمغلوطة لها، مقتنصةً الموروث الشفاهي الحكائي الصحراوي لتوظفه ببراعة وفق آيديولوجية التوثيق في جانبها الحضري متخذة من الواقع التاريخي والثقافي مادة تخيلية تبني بواسطتها عالمها الروائي، ذلك العالم الذي اشتغلته ببراعة امرأة تعرف كيف تحيك “الكروشيه” خاصتها. تقسّم لينا سلطانات الرمل إلى قسمين: القسم الأول الذي يحفل بالسلطانات: حمرا الموت، مراية، “شمس- عنقا- ليز” قطنا الكنج، وحياتهن على خلفية الأحداث السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة. القسم الثاني بعنوان نسل السلطانات : طراد، لورنس، سكرى، منوى.. الجيل الذي خلفته السلطانات والحياة التي اختاروها في عوالم مختلفة. ورغم اندماجهم في حياة التمدن، لكن البحث عن عوالم الصحراء والجري إثر روائحها ظل هاجساً كما حصل مع طراد، وسكرى، ومنوى إلى آخره.. وقد ساعد المكان الصحراوي على الاحتفاظ بأنماط حياة بشرية وحيوانية ونباتية، حيث تميزت قبائل البدو بهوية ثقافية، ولغة وعادات وتقاليد وطقوس خاصة تكشف عن خصائص غنية ومركبة كما توضح الرواية، حيث تختزن مراحل حضارية متعاقبة وترصد تحولات المجتمع البدوي وصولاً إلى مراحل التمدن، إذ يظهر ذلك واضحاً في نسل السلطانات فيظهر تحولات هذا المجتمع وانعكاسه على أشخاصه في القرن العشرين: طراد، ومنوى، وسكرى.. مروراً بإلغاء الرئيس جمال عبد الناصر قانون حكم العشائر عام 1958 وأثره على حياة القبائل في البادية. هكذا تقدم الروائية المجتمع البدوي فتسلط الضوء عليه منقذةً إياه من ظلم تدويني وشفاهي، وتحسب لها جرأتها في تقديم صراعات العشائر في الصحراء، وتلك الحنكة الروائية التي تدير بها العقل العشائري والقبلي، الذي قطن بلاد الشام من عنزة، وشمر و..الموالي، متخذةً من الواقع التاريخي خلفية تلتقط منها مادتها التخيلية فتبدو البادية أنثى أولى وخام في عالم لينا هويان الحسن وبؤرة للأحداث التي تنطلق منها الشخوص وتعود إليها في زمن دائري، فنسل السلطانات خرج من الصحراء إلى المدينة لكنهم بقوا يبحثون في دواخلهم عن بوادي تعطيهم تلك الحرية التي تمتعت بها جداتهم وذلك وفق مستويات زمنية عدة، يتقاطع عبرها نظام الحياة البدوي القائم على الترحال الدائم، ووقائع الصراع القبلي، والغزو وطقوسه، إذ تكشف دوائر السرد عن جانب آخر يتمثل في طبيعة المزاج البدوي اللائذ بالنهايات القصوى للحياة، غواية الثروة، والسلطة، وشهوة الجسد فضلاً عن دراما الحياة والموت والعشق المستمرة والمتلاحقة. تقوم الروائية بوظيفة مزدوجة فتتماهى من ناحية مع صوت السلطانات كلُّ على حدة، وتشكّل من ناحية ثانية دوائر السرد المرتبطة بتلك الشخوص، فتقودها على نحو تكشف في بداية دورة الحياة عن نهايتها. يسسكن الكاتبة هاجس البحث عن تلك الهوية الثقافية المهمشة للبدو، واستعادة ذلك التاريخ المجهول من النسيان والمحو، تلك الذاكرة الموغلة في القدم والمرتبطة في الوقت ذاته بتأثيرات الأسلاف المتناثرة عبر الصحراء، فقد قام بناء الرواية على الكشف عن المسكوت عنه في هذا العالم نفسه ويتمثل في عزلة المكان – البادية – التي تتظافر مع استدارة الزمن كي تكتمل الدائرة على حيوات الشخوص الروائية بما يفضي على نهاية العالم نفسه، ودخول نظام الحياة المرتبطة به بشقيه المعيشي، والمعرفي إلى زوال..إن تجاور المقتبسات من كتب الاستشراق خدم خطة الكاتبة إذ يفتح مشروعها الروائي بهذه الطريقة على المعرفة الإنسانية الموثقة، ويتفاعل من ناحية ثانية مع الرؤية الروائية، ويربطها بسياق الرواية العربية المعاصرة، وهذا يمنح الكاتبة خصوصية في طرق ابتكار القص، تكشف إمكانات كتابة مغايرة، وتسهم في بلورة خصوصية أكثر اتساعاً في السرد العربي الحديث..