عِبرٌ وعَبراتٌ …!

154

جمعة اللامي /

قلت له: قل ما تيسَّر لك يا غريب، أراك مثل قيس بن ذريح، بعدما فقد لُبنى، وصارت إلى سواه؟
قال : لستُ أنا كذلك، وإنما هو رجل آخر، ضيعني ولقيته عند محفل، فلم أرد أن أجعله يبدو صغيراً أمام نفسه، أو أبدو أمام نفسي مقاطعاً له، والوقائع قُصادُ أهل العقل، تُضرب ولا تقاس يا شقيق نفسي.
قلت: كيف، أَبِنْ؟
أتَبكي عَلى لُبنى وَأَنتَ تَرَكتَها … وَأَنتَ عَلَيها بِالمَلا أَنتَ أَقدَرُ
فَإِن تَكُنِ الدُنيا بِلُبنى تَقَلَّبَت … عَلَيَّ فَلِلدُنيا بُطونٌ وَأَظهُرُ
(قيس بن ذريح)
قال: قلت هو رجل ضيّعني، ومن يضيّع كريماً فذاك خزيٌ إدّا، ولقد لقيته عند محفلٍ حَفِلَ ببعض ربعٍ لي قاموا لتحيتي عندما أقبلت عليهم، أفتدري ما عملت؟
قلت: لا، وأيمُ الله!
قال: توقفت بعد خطوتين، ثم وضعتُ كفي اليمنى على مكان قلبي، وجلست عند حيث وقفت، من دون أن أرفع بصري نحو أصحابي.
قلت: يا غريب، لم فعلت هذا؟
قال: صاحبي هذا ذو شأن ورياسة، فإن تقدمت وسلمت عليه وسط القوم، حسبت أن يحسبني بعضهم مرائياً مداهناً، فلم أسلّم عليه، وإن لم أسلّم عليه خشيت أن يصنفني ضميري بمقاطعة ذلك الرجل.
قلت: أعلم، فالرجل المسلم حين لا يسلّم على أخيه، فتلك مقاطعة ضخمة.
قال: وهكذا تركته لنفسه لعله يشعر بالحياء منها، وتركت نفسي لنفسي لعلني أستزيد حياءً من واقعات الأيام والليالي.
أعرفُ غريب المتروك، تماماً، وأعرفُ ذلك الرجل أيضاً، فهو قد حطّت به المصادفات في مكان أكبر من قدراته، وهو لم يثقف نفسه، كما كانت العرب تثقف العصا لتصير رمحاً، فأخذ يرمحُ حين لا تكون في الميدان مبارزة، ويلغو حين يتطلب الصمت محفلاً يزدهي بأسياد الصمت.
ومن شأن صاحب تلك الرياسة أن يغلط في حق نفسه، ويخطئ في شؤون غيره من الناس، ولا أتعس حظاً من ذلك الذي يغلط بحق أصحاب الفكر وحملة الأقلام!
كنا في “قصر الرمل” نطل على الشمس ساعة تغيب، فكانت مثل كرة نار هائلة، يوشك البحر أن يبتلعها، فقلت لغريب: أحسنت، والله، صنعاً.
قال: حال بعضنا، مثل حال الذين يقولون إن الشمس تموت إذا انتقلت إلى الغرب!