مرَّت بسلام!

390

بيان الصفدي /

حمل الشاعران معهما رائحة سورية، كما يقال، سليمان يشعر أنه في بيته فهو البعثي المؤسس، أما الجندي فهو البعثي العاق! فقد طلق ماضيه وصار يتقرب من الشيوعيين، ويعيش في الحانات طوال الوقت، إلا أن الغريب أنه لم تدرج له أية مشاركة في المربد وهو مدعو إليه، فشعر بإهانة كبيرة، وأمامي سمعته يعاتب شفيق الكمالي بقسوة على ذلك، وراح الكمالي –بلطفه- يهدئ ثورته ويقول:
-وداعة علي أسويلك أمسية بوحدك، لا تدير بال!
والحقيقة الملموسة وقتها أنه قد جرى استبعاد الشعراء العراقيين المعارضين -ولاسيما الشيوعيين- ورداً على ذلك أقام الحزب الشيوعي العراقي ما يشبه مربداً صغيراً في مقر جريد “طريق الشعب” في شارع السعدون، ودعا إليه علي الجندي، ولا أدري وقتها كيف تجرأت وذهبت معه في وقت حساس، وكانت الاغتيالات والاعتقالات تجري هنا وهناك، وبالفعل كان مربداً جميلاً وحميماً.
ولا أنسى كيف استقبلنا على الدرج الشاعر رشدي العامل الذي صاح واضعاً يديه على رأسه من الفرح:
=يا يابه …علي الجندي هنا؟
افتتحه عبد الرزاق الصافي -كما أذكر- وحضره من الشعراء الذين أذكر منهم: يوسف الصائغ وفوزي كريم وهاشم شفيق وخليل الأسدي وعواد ناصر وصادق الصائغ ومخلص خليل، وظللت قلقاً بعدها لأسابيع من أن يحصل شيء بسبب حضوري.
عرفت أن علي الجندي صديق حميم لحميد سعيد، ووقتها كان المدير العام لدار الجماهير، فعندما زرت الجندي مساء في فندق جلجامش طلب مني مرافقته إلى العشاء في اتحاد الأدباء بدعوة من حميد سعيد، وهذا ما حصل، فقد جلسنا في أفضل مكان، وكان العاملون يتفننون في إكرامنا، إكراماً لحميد طبعاً، فنحن ضيوفه، وراحا يتبادلان الذكريات الشبابية في بيروت خاصة، وكان على طاولة أخرى الدكتور مالك المطلبي صاحب المقالب الدائمة، وهو صديق لحميد أيضاً، فأراد أن يمازحنا في ذلك الجو، فإذا به يسأل “جان دمو” أشهر صعاليك الثقافة العراقية، وكان يجلس إلى طاولة بعيدة قليلاً:
-جان شنو رأيك بفلان؟
فيجيب جان:
-مطي!
وهكذا حتى قال له:
-وميشيل عفلق؟
فرد جان:
-ومن يكون هذا المطي؟
هنا وقف صحفي إلى طاولة بجانبنا، وراح يشتم جان، فتدخل حميد بحصافة قائلاً:
-عوفه.. عوفه هذا مخبل.
فقال الصحفي موجهاً كلامه إلى علي الجندي:
-العفو أستاذ بس أنا ما أقبل أسمع هذا الكلام، ولا تنسى إحنا في العراق دانبني التجربة النموذج!
الطريف أن علي الجندي قال على الفور، وبصوت مسموع:
-حذائي على هالتجربة!!
فزَّ حميد سعيد وأسكت الصحفي، وأشار لمالك، وقال:
-رجاء يا معودين ترى عدنا خطار من خارج البلد، لا تبهدلونا.
ولا أدري كيف مرت تلك الأمسية بسلام!