عندما يضع النسر “بيضه” في سلّة التنين!
سرمد عباس الحسيني /
ليس سراً أن نعرف ونعرّف أن السياسة هي فن الممكن، وقاسم هذا الفن هي المصلحة.. ومن بعدها الطوفان. إذ لا صديق فيها يقف وقف ضيقك.. ولا أنيس فيها يسمع الشكوى، وهذا لعمري هو مرتكز فن السياسة الذي لا يتوافق ومصطلح (الانسداد السياسي).
هذا الفن الذي يحتّم على حاويه أن لا يضع بيضه في سلة واحدة لضمان مخرجات تتيح له النجاة من موجات السياسة العاتية.. إن حسبها وكال ميزانها بعين صائغ.
ولعل ما ذكر أعلاه يتطابق وتصريحات المستشار الألماني (أولاف شولتز) الذي ردد، قبل أربعة أعوام، جملة عُرّفت بأنها من بديهيات السياسة والاقتصاد بأنه (يمكنك أن ترقص مع أي شخص في الغرفة في سبيل الغاية)، التي أردفها بعد أزمة الغاز الروسي بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، بأن (لا تضعوا بيضكم بعد ذاك في سلة واحدة).
ومن منطلق الجملتين.. حطت طائرة شولتز في بكين بزيارةٍ غير متوقعة رغم الإعلان عنها، وليعانق (تشي جين بينغ) المتوج حديثاً على (عرش) الصين بعد تجديد وتمديد ولايته للمرة الثالثة، الخارجة عن السياقات السياسية الصينية المتبعة سابقاً في آليات آلتجديد.
حط (أولاف شولتز) رحاله في حضن التنين الصيني المتوّج بتاج الولاية الثالثة الناقص لدرة تاجه المنتظرة … تايوان. حط (أولاف شولتز) رحاله في حضن ثاني اقتصاد عالمي، متجاهلاً تحذيرات جزء ليس بالقليل من أركان منظومته السياسية الحاكمة في (ألا تلدغ يد ألمالنيا من جحر الاعتماد المفرط على جهة واحدة.. مرتين)، وبعد ذلك ترنّح الاقتصاد الألماني بسبب شح الغاز الروسي بفعل العقوبات الأمريكية-الأوروبية، الذي كان يباع (الغاز الروسي) الى المانيا بسعر (بخس) قياساً بأسعار (شايلوك البندقي) المضروب بأربعة أضعافه، مصداقاً.. أن لا صديق في عالم السياسة والاقتصاد.. إلا المصلحة وإن تذمّروا.
حط شولتز رحاله عند جدران سور الصين العظيم طارقاً بواباته الاقتصادية، بعد أن لم يترك له (العدو) الذي شح بغازه عنه بفعل العقوبات، والحليف الذي نكث بوعوده وبربوبية أسعاره.. والصديق الجار الذي لم يشاركه غازه المرتجع من إسبانيا كما كان يأمل، الذي دفع (ألمانيا) الى التوجه نحو خطة اقتصادية بـ200 مليار يورو لحماية الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمستهلكين الألمان من تبعات أسعار الطاقة الجنونية.
رغم أهمية ما ذكر من أسباب للزيارة، إلا أنها لم تكن الأهم، على رأي المتابعين، الذين ما فاتهم توقيت الزيارة المتوافق ويوم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية (أن الصين دون سواها هي الخطر الأكبر على الولايات المتحدة)، رغم ابتلاع روسيا لما يقارب الـ15% من أراضي أوكرانيا الأوروبية.
إن تخوّف أصوات المنظومة السياسية الألمانية من نتائج وتبعات زيارة الصين لم تكن صدى لصوتٍ غائب، بل لضجيج اقتصادي علا تخوفاً من تكرار ذات الأمر، عندما وضعت ألمانيا بيض اقتصادها في أنابيب الغاز الروسي المحتقن بفعل العقوبات. ويأتي قلق التخوّف هذا من إمكانية تغلغل الصين في الاقتصاد الأوروبي بالعموم والاقتصاد الألماني بالخصوص، هذا إذا ما علمنا أن الصين اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، وبحجم تجاري وصل الى 205،6 مليار يورو بين البلدين، مع توجه المانيا بشركاتها الكبرى للاستثمار في الصين ضمن سياسة اقتصادية مرسومة تتيح لهذه الشركات استحصال نتائج اقتصادية عالمية، وهو الأمر الذي لم يفت على شركة (BASF) للكيمياويات، التي افتتحت مصنعاً كبيراً لها في (سانك يونغ) بأمل تدفقات مالية متوقعة بحدود عشرة مليارات يورو عند وصولها للعام2030.
كما اتجهت المانيا بوجهها استثماراً في صناعة سياراتها بشكل كبير في الصين التي تعتمدها كسوق ممتاز لصناعة وتسويق السيارات الألمانية لديها، والمتمثل بعمالقة هذا العالم مثل (مارسيدس-بي أم دبليو- فولكسفاكن) مع إدارة ظهرها الى ما كشفته (الأمم المتحدة) من وجود انتهاكات جسيمة تجاه حقوق الإنسان في الصين، ولاسيما في أماكن صناعة سياراتها واستثماراتها في منطقة (سانغ يونغ) غرب الصين، على الرغم من تحذير شولتز من مغبة الوقوع في الشرك الاقتصادي الصيني. ولعل الصوت الأعلى تحذيراً له كان من وزيرة خارجيته (أنا لينا بيربوك) المنتمية الى حزب الخضر الألماني المعني دون سواه بملفات حقوق الإينسان، التي تبنت هذا الملف، بالإضافة الى تأكيدها للمستشار الألماني من مغبة تكرار الوقوع في أخطاء العلاقة مع موسكو في علاقتهم المقبلة بقوة مع الصين، وهو الرأي المتقاطع (التحذير) مع رأي تيار (أولاف شولتز) داخل حكومته، الذي يرى أن تعزيز العلاقات مع الصين خطوة بالغة الأهمية في وقت يتجه فيه الاقتصاد الألماني نحو الركود.
ويأتي تحذير (بيربوك) قلقاً من سير ألمانيا تجاه سياسة اقتصادية (لا انفصال) فيها عن الصين، التي وضع فيها مستشار ألمانيا غالبية بيضه الاقتصادي او لعله أهمها.. في سلة الصين، التي قد تدفعه نتائجها الى أخذ خطوة قد تتحول الى استدارة كاملة عن الحليف الأمريكي والجار الأوروبي اللذين خذلاها في أزمتها المفروضة عليها بإلزامها بنتائج العقوبات على روسيا، وكأنما ألمانيا بشعار نسرها الذي بسط جناحيه يوماً على كل أوروبا مازالت تتلقى الأوامر والوصايا من حلفاء1945.
وأياً كانت الأسباب التي دفعت المستشار الألماني، مع اقتراب شتاء الدب الروسي الأقسى في تاريخ القارة العجوز، الى الاحتماء بدفء جناحي التنين الصيني، فإن عليه أن يضع نصب عينيه أن هذا التحول قد يعني يوماً ما الانسلاخ التام عن حلف الحليف والجار، وقد يجد النسر الألماني نفسه مستقبلاً في موقفٍ لا يحسد عليه، شبيه بموقفه اليوم من تبعات الحرب الروسية-الأوكرانية وأزمتها الاقتصادية بفعل تقنين الغاز الروسي واعتماد الاقتصاد الألماني عليه بشكل شبه مطلق، وذلك عندما يبتلع التنين الصيني فرخها التايواني.
حينها فقط سيكون النسر الألماني كالمحتمي من نار الدب الروسي برمضاء التنين الصيني.