ثقافة الفقد
د. كريم شغيدل/
على الرغم من أنني كنت مريضاً وخائفاً، إلا أنني حسمت الجدل الذي دار بين جدتي وأمي يرحمهما الله بشأن عيادة الدكتور ناجي روبين، تعرفت على المكان من صور الإعلان عن أفلام إسماعيل يس التي كانت تتصدر واجهة إحدى دور السينما مقابل الباب الرئيس لحديقة الأمة، لم أتذكر من ذلك الطبيب سوى ضحكته ومزاحه، وبرغم تخوفي من زرق إبرة البنسلين التي سأنالها على يده، إلا أنني لم أضلل والدتي وجدتي اللتين ذهبتا بي إلى زيارة الإمامين الكاظمين ثم زيارة الطبيب، إذ لم تكتفِ أمي ولا جدتي بطلب الشفاء من الإمامين وإنما لا بد من عرضي على الطبيب اليهودي المرح الذي ذاع صيته بين سكان بغداد بكونه يعالج مرضاه بخلق جو نفسي من المزاح والمرح قبل أن يتفحصهم بسماعته وبالقليل من الدواء.
في العام 1969 تم تسفير ناجي روبين وعدد كبير من اليهود الذين كنا نعرفهم في شارع الرشيد، وانقطعت أخباره، وقد ورد ذكره في كتاب (كل شيء هادئ في العيادة) للدكتور اليهودي العراقي سلمان درويش الصادر العام 1981، بعد ترحيله بدأت أشعر وأنا بعمر الصبا بمشاعر فقد الأشياء الجميلة، وفي حقبة الشباب بدأت أفقد أصدقاء كثيرين لعل أولهم صديقيَّ الفنانين كريم جمعة محيي ورعد شوحي اللذين أعدمهما نظام صدام، وفقد عدد كبير من العائلات بعد تسفير ما يسمى بالتبعية الفارسية، ومنهم عائلة التاجر العراقي محمد علي الشجاعي، تم تغييب الابن الأوسط جلال لكونه عسكرياً، نجا البقية من جحيم الدكتاتورية، انتقلوا من إيران إلى بريطانيا، بحسب ما سمعت وتوفى الأب قبل سنوات، لكنني لم أنقطع من البحث عن صديقي ابنهم أياد، وبمصادفة عجيبة توصلت إليه، حاولت منذ أيام حتى تكللت المساعي بالنجاح، سعدت وأنا أستعيد نبرة صوته قبل أكثر من أربعين عاماً، أيام كنا في مرحلة الصبا، أكثر شخص كنت أتمنى اللقاء به ومعرفة أخباره، الفقد الدائم هو الثمن الذي دفعناه جراء العقلية الاستبدادية التي أجبرت العراقيين الأصلاء على مغادرة الوطن الأم، منذ انقلاب مايس 1941 والفرهود حتى تسفيرات صدام المقبور وهروب المثقفين واليساريين والإسلاميين منذ السبعينات، والقضية قائمة حتى يومنا هذا بهروب أجيال متعاقبة بحثاً عن الأمان.
فقدان الرموز والأصدقاء والجيران والتغييب القسري والهروب من الوطن، ومثلها فقدان الأمان والأمل والثقة بالحياة، ثيمات أصبحت جزءاً من ثقافتنا وتحتاج إلى دراسات معمقة للكشف عن تأثيراتها في الشخصية العراقية، وانعكاساتها على الأدب والفن، وتحتاج بالمقابل توظيفاً حيوياً في الشعر والسرد والسينما والمسرح وحتى التشكيل، فهي مظهر من مظاهر العنف ونتاجات العقلية الاستبدادية التي لاتزال تتحكم ببعض أوساطنا، وجزءاً من ذهنيتنا السياسية ذات الفكر الأحادي الذي لا يرى في المختلفين معه إلا أعداء.