النكتة السياسية
حسن العاني /
تفيد المعلومات الشفاهية التي تقرب صحتها من المستمسكات أو الوثائق المكتوبة، لأنَّ أحداثها قريبة العهد، وعمرها أقل من عقدين، ولأن شهودها، أو النسبة الغالبة منهم مازالوا أحياء.. تفيد بأن النكتة السياسية الشعبية في العراق، استطاعت هزّ النظام الدكتاتوري بطريقة خادشة ومؤذية عندما جعلته (أضحوكة)، ولذلك لم يكتفِ بالعقوبات الاستثنائية الصارمة التي بلغت حدّ الإعدام، بل عمد كذلك في محاولة يائسة الى مواجهتها بالمثيل أو المشابه لها، فطرح ما يمكن أن نطلق عليه اسم (النكتة المضادة)، هدفها إشغال المواطنين من ناحية، وتحويل الصراع بين الحكومة والشعب، الى صراع بين مكونات الشعب نفسه من ناحية أخرى. ومن هنا شاعت عدة أنواع من الطرائف أو النكات، ربما كان أشهرها ذلك النوع الذي انضوى تحت تعبير أو مصطلح (أكو فد واحد)، على غرار (أكو فد واحد مصلاوي.. أو فد واحد دليمي.. أو فد واحد كردي.. أو فد واحد من أهل الناصرية). والغريب أنهم وزعوا شخصيات النكتة على عموم خارطة العراق، والأغرب أنهم ابتدعوا (لكل واحد) خصلة، كالبخل أو الجهل أو الغفلة أوالخبث. ولكن تلك المحاولة فشلت في مواجهة النكتة السياسية الشعبية، لأن أحداً لم يلتفت اليها.. ولأنها لم تثر حساسية أحد لكونها نكاتاً عابرة لا تتعدى حدود الضحك، بغض النظر عن كونهم عرفوا أو لم يعرفوا من يقف وراءها!!
على أن مشكلة النكتة السياسية تكمن في بقائها بعيدة عن التوثيق، لأنها من دون مرجعيات معروفة بخلاف وسائل النضال الأخرى كالقصيدة والرواية والمسرحية والمقالة والمنشور والتظاهرة والسجن والمحاكمة.. الخ، فكل هذه العناوين والمسميات أرشفتها ذاكرة التاريخ الكتابية والمعنوية، في حين تنسب النكتة الى ملثّم مجهول، لأنها من صناعة شعب بأكمله، ولهذا طالها الظلم والتهميش. ومع ذلك يجب الاعتراف بأن المؤرخين والموثقين العراقيين لم يكونوا ميالين الى مثل هذا الجهد كما هي الحال عند المصريين مثلاً، فحين نطالع كتاب (دولة الظرفاء) أنموذجاً، وكيف تم جمع عشرات الطرائف التي كان يمكن أن يطويها الزمن والنسيان، ندرك كم ربحوا وكم كانت خسارتنا كبيرة..
لعل واحدة من قضايا كثيرة طرحتها النكتة للنيل من النظام السابق، هي تحكُّم النخبة السلطوية بمقدرات البلاد الاقتصادية.. وفي هذا المجال تفيد إحدى النكات، أن صحفياً أجنبياً سأل (خير الله طلفاح- خال صدام ووالد زوجته): يُشاع أن جنابكم استولى على مئات الأراضي السكنية في بغداد.. فكيف تردون على ذلك؟! أجابه طلفاح: هذه شائعة مغرضة، فأنا لا أملك سوى قطعتين فقط، الأولى اسمها (الكرخ) والثانية تدعى (الرصافة)!! هذه الطرفة الساخرة وغيرها كثير، كانت تعرّي النظام ورجالاته بطريقة أتعبتِ السلطة كثيراً، لكونها تعتمد على ما يعرف بالكوميديا السوداء، وهذا النمط من الكوميديا يتميز بسرعة الانتشار والتداول. ولكن الغريب أن قضايا الفساد المالي والعبث بمقدرات البلاد الاقتصادية التي شاعت في ظل النظام السابق، سرعان ما تضاعف حجمها بعد سقوط النظام، حتى باتت حديث الجميع، ومن أجل ذلك انبثقت هيأة نزاهة ولجان رقابة ودوائر المفتشين العامين.. ومع ذلك تتسع رقعة الفساد بحيث أصبح النزيه عملة نادرة، ومن هنا استعادت النكات السياسية عافيتها.
تقول إحدى النكات: إن الشيطان غضب وقرر مغادرة العراق، لأنه بعد الجهود المضنية التي بذلها لتعليم السياسيين الحرامية أحدث الطرق القانونية لتزوير شهاداتهم وتواريخهم وسرقة المال العام، إلى أن فاضت خزائنهم بالدولارات، لاحظ بأن الواحد منهم إذا بنى قصراً فخماً، كتب على واجهته: هذا من فضل ربي!!
تنويه: الفرق الوحيد بين فاسدي المرحلتين، يكمن في أنّ فاسدي الأمس كانوا يتسترون على سرقاتهم، أما اليوم فيجاهرون بها، وهم في قمة الاطمئنان!!