عبد المنعم الأعسم
صورة التاريخ تحتاج إلى تنميط دائماً. فالتاريخ قد لا يعيد نفسه، لكنه يتشابه أحياناً، سوى أن مدون الأحداث يلزمه قطع الأنفاس حين يقرأ عدد ضحايا النساء والأطفال في دورات الإبادة والمجازر. وقل إنه يشبه شجرة تين تفرض نفسها على مسقى الماء ليغير مجراه كلما طمره الثمر المطعون، وداسته أرجل الغُزاة، ليبقى موضع قسَمٍ مقدس “والتين والزيتون”، أو كما كشفت لنا الشاعرة الفلسطينية (نعومي شهاب ناي) بقولها:
بسواها من الفواكه لم يكن أبي يحفل أبداً
يشير إلى أشجار الكرز ويقول
“أترين تلك؟ أتمنى لو كانت أشجار تين”
وهكذا تتراجع المقولات المتداولة، المحاطة بالرعاية، عبر التاريخ، إلى هامش الحاجة، مثلما تبلى جميع مناشف الوجه في الاستخدام، ثم سرعان ما تصبح من الماضي المؤرخ، بلا نفع او دلالة. المفكر الاشتراكي الفرنسي (جاك أتالي) وضع التاريخ كله في موضع الصورة التي تحتاج دائماً إلى يد العابثين لتناسب الذوق العام وبمستوى استيعاب الجمهور. “إنها بحاجة إلى لغة مثيرة تجعلها تتغلب على وطأة المجاملات.” وثبتت نبوءة أتالي فيما بعد، فإن الإعصار الرهيب الذي ضرب فرنسا في مطلع التسعينيات، ضرب، في ذات الوقت، مدونة تاريخية هندسية عن متانة البنايات الحديثة الراسخة، وبرزت مفاهيم معمارية بديلة، فقد سقطت الأولى وتماسكت الثانية. بل إن مدونات تاريخ العصر الأوربي الوسيط أصابها نوع من الشك في جدارة المدونين، وبخاصة إرث العصبيات المستفحلة. وكان الإمام على قد وضع هذه المعادلة في كيمياء الصح حين حذر في (نهج البلاغة) من موروث العصبية تحت معاينة عميقة بقوله: “إن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لاجتناب المفاسد في الأرض.”
وثمة نصف تلك الشكوك (كما يقول الروائي الأميركي المصلح هيرثورن)، يمكن أن يكون صحيحاً. يكفي أن نتذكر أن إيتماتوف، في روايته (وداعاً يا غولساري)، كان يسأل فلاحاً ثائراً عما دفعه إلى الثورة، فكان الأخير يجيب “لا أتذكر”، لكن إيتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقاً في كفاحه من أجل الحرية إلى ابعد الحدود. القضية برمتها بسيطة، فإن ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرانس (كما يقول باسكال)، يعتبر لا حقيقياً في الجانب الآخر. ويُزعم أن نيوتن اكتشف قانون الجاذبية الأرضية لما لاحظ تفاحة تسقط من الشجرة، لكن الوثائق العلمية لأكاديمية العلوم البريطانية تبطل رواية التفاحة، وتؤكد أنه جرى التوصل إلى صياغة قانون الجاذبية بعد نيوتن بسنوات. والحال، أن التاريخ، كمقولات، يعيش معنا مثل نوع فصيلة الدم التي تلازمنا دائماً.
التاريخ مثل مادة الحديد، يُمكن تحويلها لتكون تحت نزعات الناس واحتياجاتهم، تُلوى وتُحرق وتُدمر وتيأس وهي تقاوم ناراً أو مطرقة وسنداناً، لكنها في نهاية المطاف تظل في نطاق سيطرتهم والتشكيل الذي يُريدونه. والحال، فإنه لا يصح، بخاصة إذا ما استخدمت في كتابة التاريخ لغة سليمة، وبهذا الصدد يقول خالد القشطيني إنه “من الحقائق التي تركت أثرها العميق على تاريخ الإمبراطورية البريطانية كانت حقيقة لغوية لا أكثر. والحقيقة اللغوية التي أشير إليها هي عدم مقدرة الإنجليز على تعلم أية لغة أجنبية.”