الشعر وصحوة الشفاهي

أحمد سعداوي/ 

قبل سنوات، وفي التعريف بالشعراء المشاركين في كتاب (بورتريه للملائكة)، وهم تسعة شعراء سويديين شباب، لفت نظري أن نسبة كبيرة منهم لا يقدمون أنفسهم للجمهور العام كشعراء فحسب، فهناك منهم المذيع والإعلامي، الذي يقرأ شعره في الإذاعة، وهناك عازف الجيتار الذي يقدم فقرات مع الموسيقى في النوادي أو القاعات.
هذا بالطبع يكشف عن مواهب أخرى، غير موهبة الكتابة الشعرية، التي تمنح الثقة لهؤلاء الشعراء في استعراض أنفسهم أمام الجمهور العام، وهي امكانية لا تتوفر لدى كثير من الشعراء بالطبع، ولنقل إنها إمكانية مسرحية.
لكنها، في المفارقة، تذكّر بما كان عليه الشاعر أصلاً في عهود غابرة، حين كان الفضاء الصوتي هو المنصة الوحيدة لتوصيل الشعر، فكان يبرز ذلك الشاعر الذي يمتلك إمكانيات مسرحية وصوتاً رائقاً وحضوراً لافتاً أمام الآخرين، لا مجرد معرفته بفنون الشعر فحسب.
كان من الواضح أننا، مع انتقالنا إلى عصر الحداثة الشعرية، منتصف القرن الماضي، صرنا أبعد شيئاً فشيئاً عن الفضاء الصوتي، وكان هناك تركيز في تنظيرات الشعراء على الطابع الكتابي للشعر الحديث، وأن هناك أهمية للشكل البصري لتوزيع أبيات الشعر وتقسيماته على شكل فقرات مرقّمة، وهي أشياء لا تحفل بها القصيدة (المسموعة) عادةً.
إن القصيدة هنا هي نصٌ مكتوب ليُقرأ. وعلى القارئ أن (يمسرح) أصواتها في ذهنه ومخيلته خلال القراءة، بعيداً عن الصوت الأصلي لكاتبها.
على هامش ذلك، كانت هناك اختراقات وظواهر ظلت صامدة. فأما الاختراقات فمثلتها النصوص المسجلة صوتياً للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. الذي ظل صوته الأجش جزءاً من حيوية القصيدة التي يكتبها، وحتى مع قراءة نصوصه في ديوان أو كتاب لا تستطيع أن تهرب من تلك النبرة القوية في صوته الشخصي.
أيضاً كانت الأشرطة الصوتية لنزار قباني ظاهرة لافتة، إذ إنها كانت، في فترة من الفترات، يسمعها الجميع، وعلى حد قوله؛ “حتى سواق التكسيات.”
سمعت ذات مرة، أوائل التسعينيات، الصوت المرتج الضعيف لبدر شاكر السياب، وهو يقرأ قصائده الشهيرة، في تسجيل صوتي ضعيف الجودة، ومن يومها بقي صوته يلاحقني كلما حاولت أن أقرأ قصيدة له.
هذه كلها اختراقات حداثية، أما الظواهر، فهي؛ استمرار حضور الشعر الشعبي من خلال الصوت وقوة الأداء. فما زال الشعر الشعبي، حتى اليوم، أكثر حضوراً في الفضاء الصوتي مقارنة بالكتابي. والشاعر المجيد عليه أن يدرب نفسه على مهارات مسرحية، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه الى تطوير قدراته البلاغية والأدبية.
كما أن الفنون الشعرية العربية ذات القوالب القديمة ظلت حاضرة حتى يومنا هذا، ولم تستطع الحداثة الشعرية أن تقضي عليها. وهذه الفنون الشعرية تعيش وتنتعش بشكل معتاد داخل الفضاء الصوتي.
إن هيمنة تقنيات التواصل الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي أعادت القوة للفضاء الصوتي، وأنه وسيط أساسي للإبداع الجمالي، ومنه الكتابة الشعرية.
إن كان الشاعر الحديث راغباً بالانتشار والتواصل مع جمهور أكبر، فعليه أن يمرّن نفسه على الحضور في الفضاء الصوتي، وأن تكون جلسات القراءة أمام الجمهور ليست مجرد تلاوة لنصوص مكتوبة، وإنما عرضاً مسرحياً كاملاً، بكل عناصره البصرية والصوتية.