همسة وائل
في صيف العراق اللاهب، حيث تتجاوز درجات الحرارة الخمسين مئوية، لا تشكل الشمس خطرًا على الأجساد فحسب، بل على ما نستهلكه من غذاء وماء أيضًا.
في العراق، مشاهد الأغذية المعروضة على الأرصفة، وقناني المياه المعبأة المتكدسة تحت أشعة الشمس، أمام الأسواق وعلى أرصفة الشوارع خارج المحال التجارية، أصبحت ظاهرة منتشرة، تكمن مخاطرها بجهل ما تخلفه من مخاطر على المواطنين الذين يتناولونها.
على الرغم من تكرار التحذيرات من هذه الممارسات، إلا أن غياب الرقابة وقلّة الوعي الصحي لا يزالان يسمحان بانتشار هذه الظاهرة، التي لا تضر بالجودة فقط، بل تهدد الصحة العامة، وتفتح الباب لأمراض خطيرة مثل السرطان.
قنابل كيميائية
البلاستيك المستخدم في تعبئة المياه مُصمم ليُخزّن في بيئة باردة ومظلمة. وعندما تتعرض هذه القناني لأشعة الشمس المباشرة، يبدأ البلاستيك في التحلل الحراري، ما يؤدي إلى انتقال مركبات كيميائية خطرة مثل البيسفينول(A BPA) والفثالات إلى المياه، التي تُعد من المركبات المُسرطنة والمسببة لاختلالات هرمونية وعصبية، بحسب دراسات منظمة الصحة العالمية ومراكز البحوث الطبية.
الدكتور علي مهدي، اختصاصي طب الأسرة، تحدث عن هذه الموضوعة قائلاً: إن “تعرض قناني المياه لأشعة الشمس المباشرة يؤدي إلى تسرب مواد سامة من البلاستيك، أبرزها البيسفينولA ، التي تؤثر على الجهاز الهرموني، وقد تسبب السرطان على المدى البعيد.” مشدداً على ضرورة عدم شرب الماء من عبوة دافئة مهما كان مصدرها.
وبالرغم من خطورة الأمر، إلا أن المشهد في العراق يوحي بالاستهانة، مياه تُنقل في شاحنات مكشوفة، قناني تُعرض لساعات في الشمس قبل أن تصل إلى الزبون، ومن دون أن يدرك كثير من المستهلكين أن كل رشفة من هذه القنينة قد تكون محمّلة بخطر صامت.
أغذية مسممة
البيض، منتجات الألبان، اللحوم، العصائر، وحتى المعلبات، جميعها عرضة للتلف السريع عند تعرضها للحرارة المرتفعة في ظل الشمس، إذ تتحول هذه الأغذية إلى بيئة مثالية لنمو البكتيريا والميكروبات مثل السالمونيلا والإشريكية القولونية، ما يؤدي إلى حالات تسمم غذائي خطيرة، قد تصل إلى الوفاة في بعض الأحيان.
فيما حذّر أحمد حسين، موظف في قسم الرقابة الصحية في بغداد، من المخاطر المتزايدة قائلاً: “نقوم بجولات ميدانية يومية، نصادف فيها حالات عرض غير صحية للألبان والعصائر.” مبينًا أن غالبية المخالفين يجهلون خطورة هذا السلوك الذي قد يؤدي لتسمم غذائي خطير.
الأمر لا يتوقف عند التلف الظاهري، فبعض المواد تبقى محتفظة بشكلها وطعمها رغم فقدانها صلاحيتها، إذ تُستهلك دون معرفة ما تحمله من سموم، لتتحول من مصدر غذاء إلى وباء.
غياب الوعي
ما يزيد في الطين بلّة أن كثيرًا من الباعة لا يمتلكون معرفة كافية بالشروط الصحية لتخزين الغذاء. كما يتعمد بعضهم عرض منتجاته في الشوارع لجذب الزبائن رغم علمه بالمخاطر.
في المقابل، ومع ازدياد انتشار الساحات في الأزقة والشوارع السكنية، تعاني الرقابة الصحية في العديد من المناطق من ضعف شديد، إما بسبب نقص الكوادر، أو لضعف تطبيق القوانين.
في حين أشار المهندس فراس جبار، من دائرة صحة الكرخ، في حديثه إلى وجود تعليمات مشددة بعدم عرض المواد الغذائية تحت الشمس، مضيفاً: «لكننا نعاني من نقص في الكوادر الرقابية وصعوبة تغطية جميع المناطق، خاصة الشعبية منها. “
وزارة الصحة العراقية، وعلى الرغم من إصدارها تحذيرات عدة، وتوجيهها إنذارات للمحال المخالفة، إلا أن الحاجة ما تزال قائمة لتفعيل حقيقي للرقابة، وتغليظ العقوبات، وتنفيذ حملات تفتيش منتظمة لا تكتفي بالموسمية.
أثر اقتصادي
تعرّض المواطنين لأغذية ومياه فاسدة لا يهدد صحتهم فقط، بل يُثقل كاهل النظام الصحي، ويرفع عدد حالات التسمم، ويزيد الضغط على المستشفيات، فضلًا عن تكاليف العلاج التي ترهق الأسر والدولة.
كما أن تفشي الأمراض المزمنة، مثل السرطان وأمراض الكلى والكبد، نتيجة هذه الممارسات، ينعكس سلبًا على الاقتصاد الوطني والإنتاجية وجودة الحياة.
حلول مقترحة
تقول الدكتورة زينب محمد، باحثة في الصحة العامة: “لا يكفي فرض الغرامات، بل يجب أن تبدأ حملات توعية من المدارس والجامعات والمساجد وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، فالمشكلة سلوك عام يجب تغييره من الجذور.”
ولمواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة، لا بد من حلول شاملة وعملية على أكثر من مستوى، من بينها التوعية المجتمعية الشاملة، و إطلاق حملات إعلامية موسعة تشرح مخاطر الأغذية والمياه المكشوفة، واستخدام المدارس والجامعات والمراكز الدينية كمنصات للتثقيف الصحي، والاستعانة بمؤثرين على وسائل التواصل لنشر رسائل سريعة التأثير، والرقابة الصحية، وتفعيل القوانين، وزيادة فرق الرقابة الصحية وتجهيزها بالمعدات والتدريب، وتفعيل القوانين، وتغليظ العقوبات على الباعة المخالفين، وتطبيق الغرامات الفورية، وإغلاق المحال المخالفة المتكررة، وتطوير البنية التحتية للأسواق، وإنشاء أسواق مظللة ومجهزة بحلول تبريد منخفضة التكلفة في المناطق الشعبية، وتقديم دعم حكومي لأصحاب المحال لتحديث وسائل التخزين، وتشجيع ثقافة (المستهلك الواعي)، وإطلاق حملات تشجع المستهلكين على الامتناع عن شراء المنتجات غير المخزنة بشكل آمن، إضافة إلى وضع ملصقات تحذيرية على المحال، وتفعيل تطبيقات إلكترونية للإبلاغ عن المخالفات.
ضحايا الجهل
ومن أجل تشخيص أسباب تفشي انتشار الأمراض السرطانية والأوبئة، في ظل الظروف البيئية والاقتصادية التي يمر بها العراق، على المؤسسات الرقابية ألا تترك المواطن ليكون ضحية للجهل أو الإهمال.
إن ظاهرة تعريض الأغذية وقناني المياه لأشعة الشمس ليست مجرد مخالفة بسيطة، بل إنها خطر يومي متكرر على صحة الملايين. وعلينا جميعاً، دولة، وباعة، ومستهلكين، تقع مسؤولية إنقاذ حياة الآخرين، ومساعدتهم في تجنب الموت القادم من قنينة ماء دافئة، لا تحمل من النقاء سوى الاسم!