صفاء ذياب
هل يمكننا تحديد الوقت الذي بدأت فيه الشناشيل بالظهور في العمارة العراقية، إن كانت في البصرة أو بغداد أو النجف، أو غيرها من المدن، ربما من الصعب الوقوف على زمن محدد لهذا الظهور، غير أن التكهنات عديدة حول هذا الموضوع، لاسيما أن هناك متخصصين يؤكدون أنها ظهرت في القرن الـ17 مع بروز عدد من الفنون الأخرى في العراق.
ما الشناشيل؟
الشناشيل (ومفردها شنشول) عنصر معماري يتمثل في بروز الغرف في الطابق الأول أو ما فوقه، يمتد فوق الشارع أو داخل فناء المبنى (في البيوت ذات الأفنية الوسطيّة). تُبنى الشناشيل من الخشب المنقوش والمزخرف والمبطن بالزجاج الملون.
ويبين الدكتور أنور جاسب؛ أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة البصرة، إن الشناشيل تعد من أبرز المعالم التاريخية في البصرة، وتمثل الشرفات الخشبية المزخرفة التي تمتاز بها المدينة، وتعتمد علي إبراز واجهة الطابق الثاني بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل ناتئ إلى الأمام، ويكون هذا البروز بالخشب عادة وبزخارف هندسية، وتعد من الظواهر الرئيسة والمألوفة في البيوت البصرية، وهي دلالة على الثراء المادي لساكنيها في تلك المرحلة.
في حين تباينت الآراء حول ما إذا كان تأثير البناء على الشناشيل تركياً أو هندياً، إذ أوضحت الدكتورة جنان محمد علي في كتابها (ذاكرة البصرة.. من ذاكرة المعمار) أن الكثير من الآراء التي تنسب إليها نشأة وابتكار هذا النوع من البناء، جاء من التأثير التركي، أقرب منه إلى التأثير الهندي، مشيرة إلى أن المصطلح جاء في (لسان العرب) بمعنى الشـرفة، التي هي أعلى الشيء، وهـي مـا يوضـع على أعالي القصـور. وتذكـر بـعض المصــادر الـعربية أن الـ (رواشن)، ومفردها (روشن)، الخشب الذي يخرج من حائط الدار إلى الطريق ولا يصل إلى جدار آخر يقابله، وهو ربما يدل على مصطلح (بالكون) أيضاً.
لكن بعض الآراء تؤكد أنه خلال فترة الانتداب البريطاني على العراق التي بدأت في العام 1917، انتشرت الشناشيل بصورة لافتة للنظر في مدينة البصرة والمدن العراقية الأخرى، وذلك نتيجة استقدام عدد كبير من الهنود المهرة والفنيين في صناعة وزخرفة الخشب الذي كان يستورد من الهند.
أثر البيئة
تختلف العمارة بين مدينة وأخرى، فالمدن التي تقع على الأنهار لا تشبه في عمارتها المدن الصحراوية، أو التي تحيطها اليابسة من الجهات جميعاً، وربما كان لطبيعة البصرة وبغداد والنجف تأثير مباشر في اختيار هذا النوع من العمارة، إذ إن التربة في البصرة تمتاز بكونها تربة مستنقعات ممتدة من محافظة ميسان ومحافظة ذي قار المحاذيتين لها. ويذكر المؤرخون أن خشب (الجاوي) كان يستخدم في بناء الشناشيل، وهو النوع المفضل في العمارة البصرية، وكان سكان البصرة القدامى الأغنياء يعمدون إلى طلاء شبابيك الشناشيل بالدهان العطري. ويلاحظ أن شريطا (إبْزيما) يربط أجزاء الشناشيل بعضها ببعض لكي تكون ذات متانة قوية تستمر عقوداً من الدهر. فضلاً عن أنها تعتمد على أعمدة ملساء ومضلعة تعلوها تيجان مقرنصة، في حين عمد الفنانون إلى تزويدها بفصوص مدببة، أو مسننة، وأحياناً ثلاثية الفصوص، وهذه الأشكال تتباين حسب الإمكانية المادية والذوق لصاحب البناء، وقد تأخذ نقوشاً شبكية. ويلاحظ أن الفتحات العليا للأقواس أوسع من الفتحات السفلى، ذلك لأنها تحتضن أنواع الزجاج المشجّر والملوّن، كما يلاحظ في بعض الشناشيل أن السقوف والسلالم تُشمل بالزخرفة والتلوين.
وعلى الرغم من تخصص أسطوات بهذا النوع من العمارة في مدينة البصرة، غير أن بعض بيوت الشناشيل استغرق العمل على بنائها أكثر من 3 أعوام لكثرة تفاصيلها، وقد اعتمد في ذلك على خشب التوت (التكي) أو خشب السدر (النبق)، وغيرهما من الأخشاب المحلية المتوفرة التي تعرف في البصرة بالاسم المحلي الـ(جندل)، نظراً لغلاء الحديد أو (الشيلمان)، فضلاً عن أن هذا الخشب يوضع فوقه الـحصير الذي يحاك من خوص النخيل الذي يعرف في البصرة بـ(البارية).
أبعاد اجتماعية
وإذا كانت القيمة الجمالية للشناشيل تؤكد على حِرفية أسطواتها، إلا أن هناك بُعداً اجتماعياً مهماً تقدمه هذه العمارة لسكانها، إذ إن وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعوائل أن تتبادل التحايا والأخبار وشتى الأحاديث من خلال النوافذ المتقابلة التي يوفرها هذا الطراز العماري. فضلاً عن أن شكل الشبابيك المطلة على الأزقة والشوارع يسمح لأهل الدار بالنظر إلى الخارج، أي الزقاق، في حين لا يستطيع المارّة أن يروا ما في الداخل، وهذه الخاصية مهمة جداً بالنسبة للنساء.
ومن أشهر المناطق التي تنتشر فيها الشناشيل في مدينة البصرة؛ محلّة النظران- مع أن الكثير منها أزيل، وبنيت مكانه بيوت بطرز جديدة-، ويبين أحد سكان هذه البيوت القدماء؛ علي حسين، أن أغلب سكان الشناشيل القدامى في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانوا من اليهود، لكنهم تركوها بسبب التهجير القسري الذي طالهم في تلك الفترة. موضحاً أن نمط بناء هذه المنازل على الطريقة الشرقية، حيث كان الأسطوات آنذاك يراعون الثقافة المتبعة للمنطقة، وأن هذه البيوت تراها متشابكة ومختلفة الواحد عن الآخر من حيث النقوش، وقد ساد هذا النوع من البناء حتى مطلع الخمسينيات الذي شهد نهاية بناء هذا الطراز المعماري.
يرى بعض سكان هذه المناطق، أن عزوف الناس عن بناء هذه الشناشيل يعود إلى وفاة أغلب أسطوات هذه النوع من العمارة، ولأن الأسطوات الجدد لا يجيدون هذا الفن مثلما كان في السابق، في حين يرى آخرون أن التطور الذي شهده العالم يرجع وراء اختفاء هذه التقاليد في البناء وإن كانت جزءاً من الثقافة في يوم من الأيام.