نحو الثمانين!

178

جمعة اللامي /

حين ودعتنا الشمس، لتغرب في الجهة الأخرى، لم أكن أصدق أنها ذهبت لتدفن نفسها. كنت أعتقد أنها ستشرق على أناس آخرين، وجمادات أخرى، وحيوات جديدة، وفضاءات لا قبل لنا بها. وحين عالنتُ غريب المتروك بهذه الفكرة، هزّ برأسه خفيفاً، ثم قال: أنظر إلى تاريخك!

“إن الإنسان اللاواعي، الذي يحلم وفي يده لؤلؤة، وفي إصبعه ماسة، يمثل نفساً مثقلة جداً” ـ
(غاستون باشلار – تكوين العقل العلمي).

بادرته : إني أعرف تاريخك، يا صاحبي. سأمّر سريعاً على المرحلة الابتدائية، ولن أتوقف كثيراً عند المرحلة الإعدادية، وسأتوقف قليلاً عند المرحلة الثانوية، التي ودعتها لتدخل السجن، بينما كان أقرانك يودعونها فرحين نحو الجامعات.
قال: صدقت. لم أعرف اللعب مثل بقية أبناء عمري. كنا بدايات جيل يُفكر كثيراً ويأكل قليلاً. يقرأ كثيراً وينام قليلاً. كنا نتعذب بالمعرفة ونشقى بالتثقف، ونزدهر بالرهانات والمجاهدات التي فرضناها على أنفسنا.

كان البحر أمامنا، عند (قصر الرمل) هادئاً، هادئاً، هادئاً، حتى يكاد لا يطاق. وفوقنا السماء، مثل سقف لا تناله أيدينا، ولا تنوشه هاماتنا. لكننا في لحظات العمر الماضية، كنا نعتقد أن هاماتنا تطاول أعلى الشاهقات لأننا كنا نعرف ما نريد.
قاطعني المتروك: أكاد أعتقد الآن أن جيلنا يشبه غصن شجرة صفصاف، قُطع من أمه، وقُذف به على قارعة الطريق. وها هي العقود تمرّ، ولا أحد يسلم على ذلك الغصن الذي يعاني من وحدته وغربته، بعيداً عن الجذور الطويلة لأمه العتيدة، ويأكله الحنين إلى صدر أمه.

كنت أعرف الآن أنه يتذكر ماضيه، ووطنه، وأسرته، لكنه لا يفصح عن ذلك، بل يقول: إني غصن من صفصافة. بعد الثانوية تلقفه السجن، وبعد السجن استدعاه التغرب. وها قد انقضت سنوات الشباب، وتجاوز عمر الكهولة، وهو لا يزال خارج وطنه، بعيداً عنه، كأنما لا يعرف هل هو حيّ أو ميت، وهل هو في أرض تشبه أرض وطنه، أم أنه لا يزال يحلم بوطنه البعيد، رغم أنه وسط بيئة تتحدث بلسانه ذاته!
قال: لا جواهر عندي، عندي أحلام فقط، أحلام صغيرة لا يقوى على حملها إلا أولئك الذين يفقهون معنى أن يكون إنسان بلا وطن، بلا تاريخ، بلا منزل، بلا عائلة، وهو كان امتلك كل هذه منذ سنة.. سنة أو أكثر.
قلت: غريب، تلك هي جواهرك.
قال: لا تزال في العمر بقية، ولا تزال ثمة سنون تريد أن تجرب مزيداً من الغربة والحنين.