ضحى مجيد سعيد /
رسمت الحضارات الغابرة ملامح التنوع في بلاد الرافدين على مر العصور، وإذا كانت الحضارة البابلية قد نهضت في حوض الفرات الأوسط، فإن الحضارة السومرية تركت بصمات جلية في جنوب بلاد الرافدين، فيما تركزت الحضارة الآشورية في شمال العراق، ولاسيما في محافظتي أربيل ونينوى وأجزاء من كركوك.
يقول أ.م.د. عبد الله خورشيد، رئيس نقابة الآثاريين في كردستان، إن أبرز الآثار الآشورية في أربيل هي قلعتها الشهيرة(قلعة أربيل-أربا إيلو) بالآشورية، وتعني (الآلهة الاربعة).
وتؤكد التنقيبات أن هذه القلعة التاريخية تحتضن معابد آلهة (آشورية – بابلية)، أبرزها (معبد عشتار)، إلهة الحب والجمال. من(قلعة أربيل) أخذت المدينة (أربيل) اسمها وهي أقدم تجمع بشري في التاريخ، يعود الى نحو 2300 قبل الميلاد.
كما أنها معلم أثري حضاري نفيس. أُدرج على قائمة التراث العالمي، من قبل منظمة (اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة.
لكن لخورشيد رأياً آخر بأنه لا يمكن الجزم أن كل الآثار في أربيل هي آثار آشورية 100%. وعلى سبيل المثال قلعة أربيل، حيث تقوم القلعة التاريخية الإسلامية فوق تراكم طبقات أثرية عديدة تمثل مستوطنات متعاقبة منذ أن أقام أول مستوطن فيها، وأن الأدوار السفلى لم تجر فيها تحريات أثرية لحد الآن. ولو أتيحت الفرصة لإجراء حفريات في هذه الطبقات فإنها ستسفر عن نتائج ومعلومات مهمة في تاريخ القلعة والمنطقة.
وإلى أن تتحقق هذه التحريات، لا يمكن معرفة أشياء مؤكدة عن أدوار المدينة القديمة، وما ورد عنها من إشارات عن النصوص المسمارية، لكن خورشيد يؤكد أن قلعة أربيل تمثل رمزاً لسبع حضارات وليس لحضارة واحدة، لذلك لا نستطيع أن نقول إنها قلعة آشورية مثل بقية المواقع الأثرية.
من دون أن يوضح الدلائل التي تدفعه الى الاعتقاد بوجود حضارات أخرى غير الحضارة الآشورية تحت مبنى قلعة أربيل، على الرغم من أنه لم تجر أية تنقيبات.
وعلى أية حال، فإن خورشيد يؤكد على أن هذه الآثار تحمل معاني الماضي في نواحٍ عدة، فهي المفتاح للحاضر والمستقبل، مشيراً الى أن علم الآثار يساعدنا في فهم العصور الماضية، ومجتمعات اليوم وتطورها في المستقبل.
وفي سؤال عن أعداد المواقع الأثرية في أربيل، أجاب خورشيد قائلاً: “جرى تسجيل ودراسة عدد من المواقع الأثرية المسجلة في المحافظات العراقية كافة، ووصل عديدها الى (6687) موقعاً أثرياً في نهاية عام 1964، وكانت حصة أربيل منها (710) مواقعاً أثرياً. أما الآن فقد ارتفع هذا العدد بسبب عمليات المسح الجديدة من قبل البعثات الأجنبية في إقليم كردستان، ولاسيما في أربيل، وبالأخص المسح الذي قام به فريق كردستاني مع جامعة هارفارد الأمريكية .
منحوتات آشورية
وفي ما يتعلق بعمليات البحث عن المنحوتات والآثار الآشورية، يقول خورشيد إن الآثار ترجع أزمنتها الى أدوار مختلفة تمتد من العصر الحجري القديم (منذ 200.000 أو 100.000 سنة) حتى العصور الإسلامية، ومن الجدير بالذكر أن بعض المواقع الأثرية المعلن عنها لم يجر في بعضها الفحص الأولي، أما المواقع التي جرت فيها التنقيبات العملية من قبل البعثات العلمية الأجنبية، أو من قبل مديرية الآثار العامة، فهي قليلة محدودة، وقد كانت أولى هذه البعثات الاستكشافية التي أوفدت من أجل الغرض المذكور هي البعثة الاستكشافية المؤلفة من كل من المستر سيتون لويد، والسيد حسين عوني عطا، وقد سافرت البعثة الى ناحية ديرة حرير في حزيران 1940 وقامت بالكشف عن التل الأثري المسمى اليوم (كردي كلي)، وعلى منحوتة باتاس (حرير)، وقدمت البعثة بذلك تقريراً مزوداً بالرسوم، وذكر المستر لويد في تقريره عن المنحوتة أنها معروفة وأنها تمثل شخصاً من المحتمل أنه آشوري، كما يمكن أن يكون حثياً.
اكتشافات ألمانية
وفي سؤال عن الآثار الآشورية المكتشفة مؤخراً، يقول السيد خورشيد إنه جرى اكتشاف مقبرة تعود الى العهود الآشورية قرب قلعة أربيل، ويقع الموقع الأثري المكتشف إلى الشرق من قلعة أربيل تحت أنقاض حي سكني، وكانت أعمال التنقيب قد بدأ فيها فريق من علماء الآثار تابع للمعد الألماني للآثار في الشرق الأوسط. موضحاً أن الآثار التي عُثر عليها مهمة جداً في تاريخ المنطقة والحقبة الآشورية، ولاسيما أن المقابر تقع خارج القلعة لا داخلها.
المقبرة التي عثر عليها هي عبارة عن غرفة تضم رفات ثلاثة أشخاص، جرى التأكد من تاريخ دفنهم بعد دراسة القطع الأثرية الموضوعة داخل المقبرة، وهي عبارة عن 29 قطعة أثرية تعود إلى العصر الآشوري الحديث، أي بين الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد. يُذكر أن بعض المؤرخين يعتقدون أن الحقبة الآشورية امتدت عبر عصور عدة بين الألفية الثانية والقرن السابع قبل الميلاد.
مدينة كيليزو
ويوضح الأستاذ في جامعة صلاح الدين، قسم الآثار، الدكتور ئاري خليل كامل، أن مدينة كيليزو في قصر شماموك تعود الى العصرين الآشوريين الوسيط والحديث، فضلاً عن منطقة (ساتو قتلا) في ناحية (طق طق) التي تعود أيضاً الى العصرين الآشوريين الوسيط والحديث.
وفي سؤال عن الرسائل التي تحملها تلك الآثار الآشورية أجاب قائلاً: “تحمل هذه الآثار بين طياتها تاريخ الأمم القديمة من الذين عاشوا في هذه المنطقة وأسهموا في مواكبة الأحداث التي تعرضوا لها, ومن خلالها نستطيع التعرف على عاداتهم وتقاليدهم وأهم الأزمات التي مروا بها, ومدى استجابتهم لأهم التغيرات الحاصلة آنذاك.” مشيراً الى أن عملية التنقيب تجري بشكل مشترك أحياناً مع خبراء دوليين، وأحيانا من دون مشاركة دولية. موضحاً أن عملية تحديد المواقع الأثرية تجري من خلال المسح الأثري والتنقيبات، او من خلال أهالي المنطقة، عن طريق الصدفة، أو عمليات البناء. مشيراً الى أن عمليات التنقيب تستغرق وقتاً، ويتعلق الأمر بمساحة الموقع الأثري.
ري سنحاريب
ويقول أ.د.نعمان جمعة إبراهيم “إن مشروع ري الملك الآشوري سنحاريب في (باستورة) هو من أبرز آثار تلك الفترة، ولا تزال هذه الآثار باقية الى اليوم.” موضحاً أن هذا الموقع الأثري اكتشف سنة 1947 من قبل المديرية العامة للآثار العراقية. مشيراً الى أن الموقع عبارة عن قناة مائية إروائية أقامها الملك الآشوري سنحاريب في منطقة جبلية بين جبال خانزاد وصلاح الدين على وادي باستورة شمالي أربيل، بمسافة نحو 25 كيلومتراً. مضيفاً أن هذا المشروع الأثري أقيم بأسلوب هندسي ومعماري فريد وبطول نحو20 كيلومتراً، وشيد بكتل حجرية كبيرة ومنتظمة، وكان الهدف من إقامة المشروع هو إيصال الماء من الوديان والكهاريز الى المعبد الرئيس للإلهة الجليلة عشتار في مدينة أربيل.
وتخليداً لأعماله الإروائية، قام الملك سنحاريب بتدوين أعماله في أسطر من الكتابة المسمارية على الأحجار التي استخدمت في بناء هذا المشروع . يقول الأستاذ نعمان جمعة إن “مدينة أربيل تحتضن ما يزيد عن 800 موقع أثري من الكهوف والتلول والمستوطنات البشرية، ومراكز حضارية ومنحوتات وقلاع من إنجازات وابتكارات الإنسان القديم، وهي الآن في تزايد مستمر بسبب الاكتشافات وأعمال المسوحات الأثرية.
موضحاً، في الوقت نفسه، عدم وجود تاريخ محدد ومعين لأقدم الآثار في أربيل، لكن لحد الآن فإن كهف شانيدر -ضمن حدود محافظة أربيل- يعد من أقدم الآثار فيها، بل إن هناك آثاراً عديدة يعود تأريخها، حسب نتائج الدراسات والتنقيبات الأثرية، الى نحو 70000 ألف سنة.