علي لفتة سعيد/
لا يتذكر أبناء الجيل الحالي أن ثمّة بحيرة موجودة على بعد 10كم شمالي مركز مدينة كربلاء، بل إنها لا تبعد أكثر من 150 متراً عن ناحية (عون)، ويفصلها عن الشارع العام حزام رقيق من البساتين والدور السكنية، وتحديداً في مقاطعة الهوتة (أم غراغر)، تسمى بالبحيرة المُرّة. الكبار هناك يتداولون هذه التسمية ويشيرون الى المنطقة التي كانت فيها البحيرة واسعةً وفيها من السمك والطيور أنواعاً عديدة.
يقول الباحث الدكتور (عدنان المسعودي) إن “هذه البحيرة كان عرضها نحو كيلومترين، من الشرق إلى الغرب، وبطول نحو كيلومتر ونصف، من الشمال الى الجنوب. وهي تقع بين الموقع الأثري المعروف بتلّ الذهب، في أقصى جنوبها الشرقي، وبين الهضبة النجدية لتلال الحصوة، ومقبرة النواويس (التي تُعرف عند العامة بمقبرة اليهود) غرباً.” ويضيف أن “البحيرة رغم صغر مساحتها السطحية، كانت عاملاً مساعداً في تلطيف درجات الحرارة في فصل الصيف. وكان بالإمكان إنشاء كورنيش استجمام بطول كيلومترين على سفوح التلال المطلّة عليها. لكن الجيل الحالي يسأل حين سمع بها (أين هي الآن؟ وماذا تحوّل موقعها؟ ومن أسهم في اندثارها؟)”
العمق التاريخي
البحيرة التي تسمى (المُرّة) ترتبط تاريخياً بحوض نهر العلقمي المندرس، الذي يخترقها في طريقه إلى الغاضرية، والمنحدر إليها من تلال الدوير الشمالي، التي تبعد عن البحيرة بمسافة كيلومترين وثلاثمئة متر من جهة الشرق. بل إن الباحث المسعودي يبتعد الى عمق التاريخ فيقول: “حين احتل اليونان بلاد الرافدين عام ٣٣٢ق.م بقيادة الإسكندر المقدوني، أطلقوا على نهر العلقمي اسم (المارسارس)، بعد أن أعادوا ترسيمه من جديد. فلمّا وفّق الله العرب وحرّروا العراق من سيطرة الساسانيين عام (١٤هجـ / ٦٣٦م) أطلقوا على المارسارس اسم (كري سعد) وأحياناً يطلقون عليه اسم (كتف سابور) المشهور بالعلقمي.” ويربط المسعودي الأمر بقوله إن “البحيرة تعد حوضاً مرتبطاً بمجرى العلقمي (المارسارس) الذي ينحدر إليها من مدينة العقر التاريخية التي تقع على بعد 6 كيلومترات تقريباً شمال شرقي البحيرة المذكورة.” مشيراً الى أن موقع العقر ماثلٌ إلى اليوم في منشأة الفتح الصناعية المدمّرة بالكامل. ويشير الى أنه “لمّا كانت البحيرة تقع عند سفوح مرتفعات الهوتة التاريخية، فإنها كانت تمتاز بصفةٍ سياحيةٍ فريدة، إذ ينعكس على أمواجها لون الصحراء الذهبي مع خضرة حقول بساتين النخيل عند سفوحها الجنوبية. ومع تزاحم نباتات البردي والقصب تبدو البحيرة آنذاك إحدى الجنائن التي جادت بها الطبيعة بسخائها المعروف على بلاد الرافدين العريقة، حيث تمثّل مصيف استجمام لأهل العقر البابليين، حتى اندراس بلدة العقر بعد تأسيس مدينة بغداد في مُستهل العصر العباسي الأوّل.” ويمضي بقوله إنه “بعد تدشين نهر السليمانية (نهر الحسينية) عام 1534م بجهود السلطان العثماني سليم الأول، اندرس نهر العلقمي (المارسارس القديم) وأختفى أثره، غير أن البحيرة استمرت في الوجود، تغذّيها مياه الأمطار التي تنحدر إليها من مرتفعات الهوتة، وتتجمّع هناك، كما تستمد بقاءها أيضاً من المياه الجوفية التي تتسرّب إليها من البساتين المحيطة بها، لكنها مع الوقت ومع شحة المياه، تغيّرت طبيعة مياه البحيرة العذبة، وأمسى ماؤها مجّاً ومرّاً، وهو ما جعل التسمية الشعبية منذ ذلك الحين (البحيرة المرّة).”
تجريف أحياء سكنية
نتيجة للمتغيّرات الطبيعية والبيئية وارتفاع معدّلات الاحتباس الحراري وقلّة المياه الواردة الى نهر الفرات، وكذلك قلة الأمطار، فإن البحيرة تحوّلت الى أرضٍ بور، وبدلاً من إحيائها، كانت هناك جهات -كما يقول المسعودي- سارعت الى استغلال الأرض بطريقةٍ استثمارية، حتى أن مقاطعة (الهوتة) التاريخية سقطت كلّها بما تمتلكه من خزائن التراب الستراتيجية الى هذه المشاريع، وتحوّلت الأراضي إلى هياكلَ صخريةٍ خاوية، وأخذت تنتكس تلك الطبيعة الإلهية البديعة، لتتحوّل إلى مكبّ نفايات. ويضيف أن عمليات رفع التربة مستمرّة أيضاً وهو ما يعني تجريف الأرض بما فيها من مواقع أثرية كثيرةـ ومن بينها أيضاً أجزاء من مقابر النصارى، التي تعرف محليّاً بمقابر اليهود، ويعطي سبباً آخر للجفاف هو عمليات شقّ المبازل وتغليف الأنهار، وجهات قامت بردم الشريط الجنوبي والغربي منها بالتراب، ووظّفتها كقطعٍ سكنية بعقودٍ رسمية. ويزيد في القول إن “البحيرة التي كانت مكاناً للانتعاش البيئي تحوّل الشريط الجنوبي منها، المحاذي للقناة المائية التي تغذّي مقاطعة (أم غرائر)، إلى حيّ سكني، ما لبث أن توسّع. في النهاية تساءل: أين دور مفتشية آثار كربلاء؟”