البكالوريا لم تعد تبكي لوريا!

إياد عطية /

تثير المعدلات العالية التي يحققها الطلاب في الامتحانات الوزارية جدلا واسعاً في الأوساط التربوية والاجتماعية على السواء، وفي الأعوام الخمسة الأخيرة لم يكن بالإمكان تسمية طالب أو مجموعة من الطلاب بأنهم الأوائل على العراق، وذلك بسبب تشارك المئات منهم في الحصول على المعدل الأعلى.
اعتاد المسؤولون العراقيون، والمجتمع التربوي، ووسائل الإعلام، على الاحتفاء بالطلاب الأوائل سنوياً، فيما تعمل وسائل الإعلام على التعريف بهم وإجراء حوارات معهم. وفي السنوات السابقة وصل الأمر إلى قيام مسؤولين كبار في الدولة باستقبال هؤلاء الطلاب وتكريمهم، ترى ما الذي تغير، ولماذا بات عدد الطلاب الأوائل يتخطى أو يقترب من المئتي طالب وطالبة، وبمعدل كبير يصل إلى درجة المئة تقريباً، وهو أمر لم يكن في حسبان أي طالب سابقاً أن يحققه.
في هذا العام حقق أكثر من 183 طالباً مُعدل 99.86، أي أنهم حققوا درجة كاملة في جميع المواد باستثناء اللغة العربية، فيما زاد عديد الطلاب الذين حققوا مُعدل 95 فما فوق على الخمسة آلاف طالب. وبالطبع ليس بالإمكان التعرف على هؤلاء الطلبة، وليس بوسع وزير التربية أن يقرأ حتى أسماءهم، وليس استقبالهم أو تكريمهم، كما هو التقليد السائد في العراق وفي غالبية الدول التي تدعم التعليم وتدرك أهميته العظيمة.
مرة أخرى ما الذي تغير؟ هل ارتفع مستوى التعليم في البلاد حتى يحقق الطلبة اليوم ما عجز عنه أقرانهم في السنوات السابقة، أم أن هناك خللاً في مكان ما، ماذا يحدث بالضبط؟
حملنا هذه الأسئلة والعديد من الأفكار إلى الجهة المُختصة بهذا الشأن، وهي مديرية التقويم والامتحانات في وزارة التربية، وبعد انتظار طويل حاولنا مقابلة معاون المدير العام للتقويم والامتحانات لكنه اعتذر، إذ كيف يجيب والمُدير العام موجود؟ ثم إنه لا يعرف أسئلتنا. وفي محاولة لطمأنة المعاون أخبرته أن بإمكانه ألا يجيب على أي سؤال ليس من اختصاصه أو لا يمتلك معلومات عنه..
وافق معاون المُدير بعد نقاش مع شخص راح يطلب موافقة المُدير العام، شاكر نعمة، على لقائنا، لكنه رفض مُتعللاً بوجود توجيهات من الوزارة بمنع المُدراء العامين من التحدث إلى الصحافة بسبب تصريحات لأحدهم خلقت مُشكلة للوزير.. حسب ما أخبرنا بذلك.
ذاكرة:
بالعودة إلى الطلبة الأوائل في العراق، أخبرني الطبيب الاختصاص بالمفاصل إياد حامد أنه قبل في كلية الطب ضمن مجموعة طبية لا يتجاوز عديدها 180 طالباً بمُعدل 86 بالمئة، ففي عام 1984م لم يحقق مُعدل 90 بالمئة أي طالب، رغم أن الطالب في الصف السادس في تلك المرحلة كان يبذل جهداً غير اعتيادي للحصول على مُعدل جيد أو حتى تحقيق النجاح، لأن الرسوب أو المُعدل السيئ سينهي دراسته ومُستقبله، ويضع حياته في مهب الريح لأنه سيلتحق بالجيش ويدخل محرقة الحرب، ناهيك عن أن ذلك الجيل لم ينشغل بما يمكن أن يبعده عن دراسته، فلا مواقع تواصل ولا سهر، وكل جهوده وأفكاره منصبة باتجاه تحقيق النجاح، لكن الأسئلة كانت صعبة، وليس بوسع أي طالب الإجابة عنها ما لم يمتلك ذكاء متقداً وقدرة على التحليل والاستنباط، فحفظ المادة أمر سهل، ولكن الأسئلة كانت تُصاغ بطريقة لا تتيح إلا للأذكياء الإجابة عنها كلها، إذ تتضمن ورقة الامتحانات سؤالين أو ثلاثة أسئلة صعبة لا تجيب عنها إلا نوعية معينة من الطلبة المتميزين.
يقول الدكتور حيدر حسن طارش إنه حصل على مُعدل 90 بالمئة، وقبل في كلية الطب جامعة بغداد في وقت كان عدد الكليات الطبية لا يتجاوز الخمس كليات.
كما كانت الأولى على العراق طالبة من بغداد حققت مُعدل 92 بالمئة، وبالطبع فإن التفسير لما يحصل بين الأمس واليوم، ليس لأن طلبة اليوم أعلى ذكاء وأكثر حماساً في القراءة وطلباً للعلم، وإنما لأن الأسئلة سابقاً كانت تُصاغ لتمييز الطلبة الأذكياء عن سواهم، ولهذا كان من الصعب على أي طالب أن يحقق مُعدل 99 بالمئة في الامتحانات الوزارية، فحتى نهاية العام 2002م، كان هذا المُعدل خيالياً، بل كنا نراه مُستحيلاً، إذ يكفي أن موضوع اللغة العربية وأسئلته الصعبة كان يحول دون تحقيق هذا المُعدل، وكذا الأمر في درسي الفيزياء والرياضيات.
أذكى من الأوروبيين!
على صفحته في فيسبوك، تساءل الصحفي عدنان أبو زيد عن سر هذه المُعدلات العالية الغريبة، إذ أن الطالب الأوروبي لا يحقق مثل هذه المُعدلات العالية، فهل الطالب العراقي أذكى من الطالب في دول أوروبية مُتقدمة علمياً؟
الواقع أنه أمر غريب؛ فهذه الأعداد الكبيرة التي باتت تحصل على مُعدلات عالية لا تتمكن من بلوغ الكليات التي تبتغيها، إذ لا يتمكن الطالب الذي يحقق مُعدل 98 بالمئة من دراسة الطب على الرغم من كثرة الجامعات التي تدرس هذه المادة، بما فيها كليات أهلية افتتح بعضها، وبعضها الآخر قد يفتتح قريباً.
يشير الى ان هناك من يربط مسألة المُعدلات العالية بافتتاح المزيد من الكليات الأهلية، بحيث ارتفع عديد الكليات الأهلية في العراق إلى المرتبة الأولى في الشرق الأوسط بنسبة الزيادة المضطردة لهذه الجامعات، واحتل العراق المركز الأول في عدد الجامعات الأهلية عربياً، وهذه الجامعات تحتاج إلى طلبة، ويدفع تعاطف الآباء مع أبنائهم ممن يحققون مُعدلات عالية تصل إلى 96 أو 95 بالمئة، ولا يتمكنون من ارتياد كليات مرموقة كالطب والصيدلية، الى تحمل الأعباء المادية لدراسة أبنائهم في كليات المجموعة الطبية، لدراسة طب الأسنان والصيدلية أو الهندسة في الجامعات الأهلية.
الأمر الآخر هو أن وزارة أنهكها الفساد وتعاني النقص في الكتب والمدارس، وفي تراجع مستوى التعليم، تتستر خلف هذه النتائج، وتعد حصول طلابها على هذه المُعدلات العالية إنجازاً لها، أو انه على الأقل يُسكت الألسن التي تتحدث عن فسادها، بالمُقابل فإن وضع أية أسئلة صعبة سيفتح باباً آخر يجلب الصداع لمسؤولي الوزارة.
لهذا فإن ثمة سياسة عامة وتوجيهات واضحة بعدم وضع أسئلة صعبة في الامتحانات الوزارية قد تتسبب برسوب أعداد كبيرة من الطلاب، ما يعني انتكاسة في أداء الوزارة، وكشفاً لعوراتها وسُمعتها، وليس بالإمكان أن نفهم كيف أن أسئلة توضع ويجيب عنها خمسة آلاف طالب بإجابات صحيحة، إذ ليس من المعقول أن هؤلاء جميعاً يتمتعون بنفس الذكاء، بدليل أن التميز واضح وبيِّن في الامتحانات غير الوزارية بين الطلبة.
يضيف العضاض أن “هذا الامر إذا كان يريح المسؤولين في وزارة التربية، فإنه يؤنب ضمائر العديد من الأساتذة الذين التقاهم، الذين يؤمنون بأن ما يحدث يمثل ظلماً واضحاً ضحيته الطلاب الأذكياء والمُتميزون حقا، كما أنه يُعد تدميراً مُمنهجاً لقيم التربية والتعليم، وأن انعكاساته خطيرة على مُستقبل البلاد.” ويبقى السؤال: هل يظل ضمير المسؤولين في وزارة التربية وفي مُديرية الامتحانات مرتاحاً في إجازة طويلة يدفع ثمنها الطلبة المتميزون، وقبلهم البلاد وقيم التربية والتعليم؟
فضائح الامتحانات
في هذا العام انشغلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بفضيحتين ظهرتا للعلن، كانت الأولى هي تسريب أسئلة الصف الثالث المتوسط. وقد حاول المسؤولون في الوزارة –كعادتهم- أن يتستروا على الفضيحة بدلاً من مواجهتها ومُراجعة نهجهم الفاسد وتدابيرهم الهزيلة وخططهم الفاشلة ، لكن الأسئلة تسربت في الامتحانات التالية لتشكل فضيحة مدوية لم يستطع المسؤولون في الوزارة إلا الإقرار بها مُرغمين أمام حقائق دامغة، ومع ذلك أدخلونا معهم في متاهة تحقيق توصلت إلى نتائج أقل ما يقال عنها إنها عبثية وتحمي الفاسدين الذين تشابكت مصالحهم كقطع الدومينو المُلتصق بعضها مع بعض إلى درجة يخشون معها سقوط إحداها كي لا يسقط الكل.
الفضيحة الثانية اسمها ثانوية “اشك بغداد” أو كما تسمى محلياً مدارس عشق بغداد، وهي مدارس تضم أبناء الطبقة الثرية من المسؤولين والتجار، الذين يدفعون نحو 7 آلاف دولار سنوياً وأكثر لدراسة أبنائهم في هذه المدارس التي تحوم حولها الشبهات، ولاسيما بعد أن أعادت وزارة التربية – تحت جنح الظلام وبعيداً عن أي إعلان رسمي – امتحاناتهم في مادتي الفيزياء والرياضيات، إذ شكا الطلاب في هذه المدرسة من صعوبة الأسئلة فيهما، وهو أمر أثار غضب واستهجان المعنيين والعائلات العراقية، وعد هذا الأمر سابقة خطيرة وخرقاً غير مسبوق تجاوز جميع الأنظمة والقواعد التي تنظم عمل وزارة التربية مُنذ تأسيسها. وكعادتها، حاولت هذه الوزارة نفي الأمر، لكن طلاب وأساتذة في المدرسة أكدوا ما نفته الوزارة، إذ تظهر مُدرّسة وأم لطلاب في مقطع على الفيسبوك تناشد المسؤولين برفع الظلم والتمييز الذي يلحق بطلبة المدارس الحكومية الذين ينتمون في الغالب إلى عوائل فقيرة أو محدودة الدخل.
في الواقع.. فإن الحكومة والبرلمان مدعوان للتدخل وحماية مصالح البلاد أولاً، بوقف هذا الانهيار المُريع في قيم التربية، وفي ضرورة إعادة النظر بمنظومة العمل التربوية ورصانتها، ومن الطبيعي أن الامتحانات والتقويم هما من الأسس القوية في عماد المنظومة التربوية، ومن أركانها الرئيسة التي ينبغي أن تخضع إلى إعادة تقييم.
الإعلام والمعايير المهنية
أسهم الإعلام وبعض السياسيين في خلق المخاوف لدى المسؤولين في وزارة التربية بعد تدني نتائج الامتحانات الوزارية العامة (البكالوريا) للصف السادس الإعدادي للعام 2017م، ويومها فقط تنبه الإعلام إلى الفساد وضعف تدني أداء الوزارة، وعدوا تلك النتائج الواقعية مُؤشراً خطيراً على تدني مستوى التعليم، وانجر البرلمان خلف الإعلام، فاستدعى المسؤولين في الوزارة الذين وُضعوا في قفص الاتهام فقط بسبب تدني النتائج، وقد أدرك المسؤولون في الوزارة أن إسكات الألسن التي فتحت حساباً طويلاً للوزارة سهل، ولا يتطلب سوى إصدار توجيهات لمديرية التقويم والامتحانات ولجانها بضرورة وضع أسئلة سهلة تكفي الوزارة لإسكات ألسن الإعلام والمسؤولين الذين ذكرتهم فقط نتائج الامتحانات بوجود خلل في العملية التعليمية، وهنا ينبغي أن يلعب الإعلام دوراً واعياً، وأن لا يشارك بحملة في غير أوانها، فتدني النتائج أمر لا يجب أن يثير زوبعة، بل إلى مُشاركة واعية من جميع أطراف العملية التربوية، وإلا فإن الوزارة نجحت -فيما بعد- بإسكات المُنتقدين عبر أسئلة سهلة أفسحت المجال للفاسدين بالتلاعب والاستفادة من مخرجاتها.