إياد عطية/
عبرت واقعة الطف حدودها الدينية، لتمثّل قصة إنسانية تستثير مشاعر الناس على اختلاف أديانهم وتوجهاتهم، ومع ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي وآل بيته (ع) في تلك الواقعة قبل أكثر من 1300 سنة هجرية… وعلى مدار هذه الحقبة الزمنية، نهض مفكرون وباحثون وشعراء في تجسيد تلك الواقعة لتظل خالدة في ضمائر الناس وواصلوا إحياء هذه المناسبة مع اختلاف وتنوّع في طرق التعبير والطقوس والشعائر باختلاف الازمنة والظروف السياسية
وقد ساعد الانفتاح والحريات في التعبير بعد العام 2003 على تنوّع التعبير عن هذا المأساة سواء بالمجالس الحسينية او بالشعر والأناشيد الحماسية والحزينة التي تصور واحدة من أهم الأحداث في تاريخ المسلمين.
حرمنا من أداء طقوسنا
ويحتل قرّاء المنابر والمنشدون الحسينيون مساحة كبيرة في إحياء واقعة الطف، بحكم موقعهم بالمجتمع وتأثيرهم القويّ بالناس الذين اعتادوا على إحياء هذه الطقوس التي تعبّر عن تضامنهم مع مأساة الإمام الحسين وآل بيته وتقديرهم لموقفه البطولي والديني في رفض الظلم والطغيان.
ويؤكد الباحث في علوم أهل البيت عبد الامير كاظم عيسى أن واقعة الطف في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61 هـ واقعة دامية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً في بشاعتها، إذ تقدم أمة على قتل حفيد نبيها وعائلته وتعريضهم للعطش الشديد وحشد جيش كبير لا يتناسب وعدد أتباع الإمام وأهله، ومن هنا اتخذت المأساة بعدها الانساني العاطفي الذي يؤثر بكل إنسان بغض النظر عن دينه وأفكاره الايديولوجية.
ولهذا أقدم الشعراء بفعل عواطفهم وتأثرهم بهذه المأساة للتعبير عنها بأناشيد لا تستهدف رثاء الإمام الحسين وعائلته، إنما تعيد استذكار تفاصيل الواقعة وتصوير ظروف شهادته، ما أوحى للشعراء بمعان غير تلك التي تضمنتها قصائد الرثاء التي تقال في من لم يمرّ بمثل تلك الظروف، كما أن هدف الإمام الحسين في نهضته المقدسة، كان عاملاً آخر يضاف إلى معاني الرفض للظلم والانتصار للمظلوم، فاتسعت لمعاني الحرية والصمود والتحرر والتضحية وتفضيل الآخرة على الدنيا.
ويؤكد الشيخ الدكتور فيصل الكاظمي أهمية المجالس الحسينية في التعريف بنهج آل البيت وتضحياتهم في سبيل إعلاء كلمة الله، مشيرا الى أن المجالس الحسينية كانت ولم تزل مدارس للعلم والثقافة، فالشيعة حسب أحد المفكرين اليابانيين يطيرون بجناحين؛ أحدهما من الماضي متمثّلا بثورة الإمام الحسين عليه السلام وآخر من المستقبل، متمثّلا بالإمام المهدي الحجة المنتظر عليه السلام.
ويشرح الشيخ أحمد الكوفي وهو واحد من روّاد المنبر الحسيني في منطقة الكاظمية، أهمية المنابر في إبقاء جذوة ثورة الحسين متوهجة في قلوب المؤمنين، مشيرا الى أن قرّاء المنابر كانوا يواجهون المعاناة أيام النظام السابق الذي وضع عيونه وجواسيسه لكل من يقيم مجلساً حسينياً، وكانت هذه العيون تترصّد الاخطاء ولهذا كانت معاناتنا مريرة في تلك الايام، إذ منع هذا النظام المواطنين من أداء شعائرهم وطقوسهم الدينية، وكان أزلامه يلاحقون كل الناس الذين يعملون على إحياء الطقوس الحسينية ومن بينها المجالس التي يحضرها الرواديد والشعراء الحسينيين، ولقد تعرّض كثيرٌ من هؤلاء الى السجن وبعضهم أعدم، ما دفع الكثير منهم الى الهروب والسفر خارج العراق.
التشابيه
ويشير الشيخ الكوفي الى أن مدينة الكاظمية كانت تشهد أكبر التجمعات لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين، إذ يحيي ذكرى الطف قرّاء وشعراء ومنشدون كبار، كما أن الكاظمية كانت تشهد طقوسا مختلفة ومن بينها الحرص على إقامة التشابيه وهي تصوير للمعركة التي استشهدها فيها الإمام الحسين عليه السلام وآل بيته، مبينا أن المسؤولين كانوا يحرصون على حضور هذه التشابيه لا بل إن الملك غازي حضر للمشاركة في إحياء هذه الطقوس.
وللنساء مجالس أيضاً
وفي الواقع فإن أحزان كربلاء لا تقتصر على فئة دون أخرى، فالحزن يعم المدن وتنتشر اللافتات السوداء في أرجائها، واذا كانت الجوامع والحسينيات ومنابرها مكاناً للطقوس والشعائر الحسينية للرجال؛ فإن النساء حرصن على إقامة مجالسهن الخاصة في بيوتات عرفت بإحياء واقعة الطف، وتعد عائلة الحاج تحسين الساعدي من أهالي مدينة الصدر من العوائل المشهورة في إحياء هذه المناسبة، إذ تتجمّع النساء من مختلف القطاعات في منزل الساعدي، وتقوم زوجته وبناته بإعداد الشاي والطعام للنساء، وتجلب القارئات او الملايات لاستذكار قصة الإمام الحسين والعبر المستلهمة منها.
إحياء المجالس
وتذكر المصادر التاريخية أن الإمام الباقر (ع) هو أول من أحيا ذكرى استشهاد الحسين (ع) وأقام مجلساً حضره الشعراء الذين عاصروه ومن أشهرهم الشاعر الكميت الاسدى والسيد الحميري؛ إذ ألقوا قصائد مؤثرة عن الإمام الحسين (ع) وتضحيته. واستمر إحياء هذه الذكرى التي اقتصرت شعائرها على مشاركة الشعراء الى عهد الإمام الرضا (ع) إذ برز حينها الشاعر دعبل الخزاعي، لكن هذه الطقوس خبت في النصف الاول من عمر الدولة العباسية.
محاولات تشويه
وتذكر المصادر التاريخية أن الشيخ المفيد إمام جامع براثا في القرن الرابع الهجري، أظهر اهتماما كبيرا بإحياء المجالس الحسينية واستذكار واقعة الطف، فبعد استشهاد الإمام الحسين وأصحابه رأى الإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما قدم إلى كربلاء في ذلك الحين، على تلك الحالة، ومن بعده استمرّت المراسم بين حين وآخر بأساليب متعدّدة لإقامة المجالس، كالإنشاد والشعر والمراثي.
وقد تعرّضت المجالس والطقوس الحسينية الى محاولات حرفها عن أهدافها التي أرادها الإمام الحسين عليه السلام وقد وجد العلماء والفقهاء أنفسهم أمام التكليف الشرعي الذي يحتم عليهم مجابهة الضلال، إذ إن العلماء حماة الدين، فينبغي عليهم الحفاظ على حماه والدفاع إزاء ما تتعرض له مفرداته من شبهات ومحاولات التحريف ومجابهة البدع وأصحابها، والوقوف في وجه محاولات إباحة المحرمات وتحريم المباحات والمستحبات، وذلك عن طريق إنارة الرأي العام والمحافل العلمية من خلال الكتاب والمنبر والمحراب و…، أما السكوت أمام الباطل ومحاولات تغيير معالم أحكام الدين وكتمان الحق، فهو جريمة كبرى في حق الآخرين والأجيال القادمة، لاسيما أن العراق مرّ بفترات مظلمة شاع فيها الجهل، الامر الذي سمح بدخول أفكار وخرافات شوهت الشعائر الحسينية.