المــرأة العراقيـــــة الجنوبيــــة أم القصب وأسطورة الطين السومري

ذوالفقار المحمداوي – تصوير: واثق خزاعي /

يحكى أن هناك أنشودة جرى تناقلها في أحد الكواكب، كان أصل كلماتها أن زهرة سقطت في مجرى نهر ذهبي لا نهاية له، أما لحنها فقد اجتمعت كل الطيور هناك لتؤلف هذا الجمال، لم تكن كما شبيهاتها من الأنشودات، كيف لا وهي أغنية السماء الأولى، على إيقاع قطرات مطر ماسية اللمعان اكتملت، وبآلات من القصب والبردي قد عُزفت شعراً خط على عباءة سوداء، على خاصرة الكون لُفت، كان نتاجها أن ها هنا المَرأة العراقية الجنوبية قد خُلقت.
تختلف المسميات والعبارات عندما نأتي على ذكر هذه الشخصية، فبعضنا قد يطلق عليها أوصافاً عديدة، فحيناً ينادي البعض على لاعب منتخب العراق الذي يحرز هدفاً بـ (ابن الملحة)، وآخرون ينادون على من تتقن فن الخياطة بـ (المعدلة)، او تلك التي تكرم ضيوفها بـ(المعزبة)، إذ تعود أصول هذه التسميات إلى جنوب العراق ونسائه هناك، لتمتعهن بتلكم الصفات، وها هي مجلة “الشبكة العراقية” تدخل منازلهن تحت راية المعرفة، لتستلهم قوة نسوة لا شبيه لهن في كل الكون، في عيدها.
“تسواهن”
ما إن تدخل إلى محافظة ميسان، وبالتحديد منطقة تدعى (الماجدية) في مركز المدينة، ستجد أمامك تمثالاً ذا هيبة وشموخ لامرأة تأتزر بعجلة التقدم، أما يدها الأخرى فقد حطت عليها إحدى الحمامات التي ترمز إلى السلام، ذلك التمثال يحتفي بامرأة مكافحة وكادحة تحمل من القوة ما لا تحمله أية امرأة أخرى في العالم.
ومثل (تسواهن)، تلك المَرأة الميسانية (جاسمية لعيبي- 83 عاماً) التي بدورها حققت ما يرمز له التمثال، فهي المكافحة التي خطت رسالتها لترتقي بها محلتها، كما أوضح لنا أبناء منطقتها بأنها قدوة لنسائنا. تقول جاسمية، وهي تشبك أصابعها معاً: “لقد استشهد والد أطفالي في حرب الثمانينيات، ولم يكن لدي معيل غيره، ليترك لي 7 أطفال، وقد اقتضى الأمر في ذلك الوقت إما أن استسلم للمصيبة أو أنهض لمواجهتها، وأن اتعلم كيف أجاهد لكي أحقق المبتغى، ألا وهو العيش الكريم البعيد عن الذل، وأن أحافظ على شرفي، إذ أن الأرملة في مجتمعنا مهددة بالتعرض، فاحترفت الخياطة بعد أن تعلمتها، ومن بعد ذلك عملت في التجارة لأنافس الرجال بذلك، إذ أن المَرأة قادرة، وكل ذلك يحدث بقوة الإرادة والإصرار.”
بين (أوميت) و(أم جبار)
لم تكن هذه النماذج النسوية وليدة اليوم، فنساء العراق منذ قديم الزمان، وهن يحققن المنجزات ويبتكرن الوسائل التي تسهل الحياة لهن ولعائلاتهن، كذلك كانت أوميت (أميديا)، التي هي زوجة نبوخذ نصر الثاني، تلك المَرأة التي ابتكرت فكرة الجنائن المعلقة، لتخلق إحدى عجائب الدنيا السبع في بابل، أما في الزراعة، فهناك منحوتات عدة تؤكد أن المَرأة العراقية هي أول من اكتشفت الزراعة ومارستها، لتكون زعيمة المجتمع الفلاحي قبل الانقلاب الذكوري في ذلك الوقت.
(أم جبار – 85 عاماً) هي الأخرى سلكت طريقها كحفيدة لنساء العراق العظيمات، فهي تمتلك مساحات زراعية كبيرة وتحترف هذا العمل منذ صغرها، تحرث وتحصد ثمار التعب منذ سنين عدة. تحدثنا أم جبار عن ذكرياتها ووالدتها التي كانت من المشاركين في حرب 1914 الدائرة بين الإنكليز والعثمانيين، خلال الغزو البريطاني للعراق، لتقول: “كان عمل والدتي (رحمها الله) في تلك المعركة يقتصر على توفير الطعام والشراب للمجاهدين من أبناء الناصرية، وقد سطرت الملاحم في عبورها خطوط العدو لإيصال الذخيرة والغذاء لهم بلا خوف أو تردد، وأظن أن هذه الجينات انتقلت لي لأكتسب من خلالها قوة التحمل والإصرار في مواجهة المصاعب، وأنا متأكدة بأن الله قد خص المَرأة الجنوبية بأوصاف ومواهب لم يخص غيرها بها، لكي تتماشى وطبيعة بيئتها.”
أم الأطباء
مكافحة أخرى تطل من على منبر مجلة “الشبكة العراقية” في هذه المناسبة، فالحاجة (شكرية محمد -90 عاماً) من سكنة محافظة واسط تندرج تحت مسمى المجاهدات، فمنذ سنين وهي تقارع الفقر لكي تحقق حلمها في تنشئة اطفالها، إذ قاومت ضيق الحال وقلة الطعام والأموال وسوء المسكن. تسرد (أم علاء) جانباً من قصة جهادها حين تتذكر ذلك المنزل المتهالك الذي سكنته حينها فتقول: “كانت كل الأشياء شحيحة، الماء والأدوية والطعام، والملابس والنقود، فقط الأطفال كانوا بكثرة، فقد كان عدد أفراد عائلتي 10 من الأولاد والبنات، إضافة إلى والدهم، وهذا ما جعلنا نعاني من فقر الحال، إلا أن ذلك لم يثنني عن تحقيق أحلامهم وتحضيرهم للمستقبل كأم مثالية، وها أنا حققت المستحيل لأقطف ثمار جهادي من خلال أولادي الذين أصبحوا أطباء ومهندسين، ليعوضوني عن سنوات الحرمان، ومن خلال هذه المنصة أبعث رسالة إلى كل الأمهات العراقيات مفادها أن المَرأة العراقية لا مثيل لها في العالم، بما لديها من قوة وإصرار وتحمل المصاعب، لذلك أهنئها بعيدها وأتمنى أن تكون على قدر المسؤولية، لتحمل جينات العظيمات من نساء وملكات العراق.”