د.انتصار هاشم – مختصّة بعلم نفس الطفل – رسم زياد جسام /
يعدّ الاهتمام بالطفولة من أهم المعايير التي يقاس بها تحضر الأمم والشعوب لا سيما في الدول النامية، إذ يعدّ الاهتمام بها تنمية حضارية يفرضها التحدي العلمي والتكنولوجي الذي تواجهه هذه الدول فلا ينبغي ترك الأطفال وهم عماد التنمية يواجهون المستقبل باستعدادات هزيلة وإمكانات ضعيفة لا تمكنهم من الرقي بمجتمعاتهم.
لا ينمو الأطفال في فراغ فهم كائنات اجتماعية سريعة التأثر وسهلة التشكّل، وتلعب الاساليب الوالدية الدور الكبير في تكوين السمات الشخصية للأبناء والاسلوب الديمقراطي أحد الاساليب الوالدية التي تستخدم في تربية الأبناء، فالتربية هي الحياة او الإعداد للحياة.
إن الآباء الديمقراطيين دافئون وسريعو الاستجابة ويستشعرون حاجات أبنائهم ويهتمون بهم ويتوقعون منهم الاستجابة لمطالبهم، وأبرز ما في علاقة الآباء بالأبناء هنا لغة الحوار، واستخدام المشورة والإقناع في التعامل مع الأبناء فضلا عن التقبل الوالدي والضبط المرتفع الذي يجعل لأبنائهم سمات مميزة، فقد وجدت الدراسات النفسية أن التحصيل الدراسي المرتفع ميزة أبناء الآباء الديمقراطيين، ويتّصف هؤلاء الأبناء بأنهم ودودون وقادرون على تحمل المسؤوليات التي توكل بهم في البيت والمدرسة، ووجدت إحدى الدراسات العراقية التي أجريت على أطفال الرياض والمدارس الابتدائية أن من أهم السمات التي يتحلى بها هؤلاء الاطفال الاستقلالية بما تحويه من معانٍ مثل الاعتماد على النفس والثقة بها وتحمل المسؤولية والقدرة على اتخاذ القرارات.
وإذا ما نظرنا الى هذه الميزات نجدها مقومات الشخصية القوية القادرة على الابداع وقيادة المجتمع والرقي به الى مصاف الحضارات العريقة. ويعد اعتماد الأطفال الصغار على الآخرين في المساعدة شرطا ضروريا للنمو المبكر، نظرا لما يكون عليه الطفل من عجز نسبي. ومع تقدّم الطفل بالعمر تبدأ عملية الانفصال التدريجي، أي إن الفرد يمرّ بفترات نمو نفسي متعدّدة تتوقف على عمره ونضجه وخبراته واستعداداته النفسية وقدراته العقلية. وتظهر المحاولات الأولى باعتماد الطفل على نفسه في الأعمال التي يقوم بها ويكون هناك سعي موجّه نحو تحقيق هدف ما وبتقدمه بالعمر تتمايز استقلاليته التي هي على علاقة وثيقة بنمط المعاملة الوالدية التي يتلقاها الاطفال في مراحل حياتهم المختلفة.. لكنّنا نرى أطفالاً مستقلين وأطفالاً اتكاليين وأطفالاً آخرين يقعون بين هاتين المنطقتين؛ شخصيتهم غير متمايزة فهل هم مستقلون؟ أم اتكاليون؟ كل هذه الصور هي صور متأثرة بالوالدين والاسرة والمجتمع الا أن الثقل الكبير يقع على الآباء.
أبناؤنا بحاجة الى أن نستمع الى مطالبهم ونستمع الى آرائهم ونناقش قراراتهم الشخصية، هم بحاجة الى أن يأخذوا حقوقهم وأن يعرفوا واجباتهم كي يكونوا بالمستوى المطلوب على الاقل في ما يتعلق بمستقبلهم الدراسي وحصولهم على شهادة علمية ترتقي بهم اقتصاديا واجتماعيا، وما زلت اتحدث عن هذه الدراسة التي أجريت على أطفالنا في الرياض والمدارس الابتدائية، فقد وجدت هذه الدراسة أن أطفال الآباء الديمقراطيين هم أكثر ذكاءً من أقرانهم والذكاء في أبسط تعريف له هو القدرة على إدراك العلاقات بين الاشياء، إذ ترى الباحثة أن ذكاء الاطفال قد يتأثر بالاساليب القائمة على الحوار بعيدا عن التسلُّط وأسلوب فرض الرأي والطلب من الأبناء الامتثال من دون مناقشة ودون طرح أي سؤال لا سيما في ما يتعلق بحياتهم المستقبلية ومنحهم ولو القليل من الخصوصية التي تدعم الثقة بالنفس لديهم، إذ وجدت هذه الدراسة أن أبناء الآباء الديمقراطيين هم أعلى تحصيلا من أقرانهم من الأطفال الذين يعاملهم آباؤهم بأسلوب التسلُّط، او أسلوب الاهمال الذي يعاني بسببه الأطفال من انخفاض احترام الذات والتّسرع في اتخاذ القرارات فضلا عن العدوانية والمزاجية كسمتين بارزتين في شخصية هؤلاء الأبناء. ووجدت هذه الدراسة أن أسلوب الحماية الزائدة يؤثر في ذكاء الأبناء ويقلل من استقلاليتهم وبالتالي فهم اتكاليون معتمدون على غيرهم وغير قادرين على اتخاذ القرارات، لذا كان لزاما على الآباء أن يوازنوا بين محبتهم وخوفهم على أبنائهم وبين منحهم الاستقلالية بشكل تدريجي، إذ إن تشجيع الآباء لأطفالهم تشجيعا مبكراً على الاستقلال في المواقف الصعبة يؤدي إلى حدوث زيادة في نسبة ذكاء الأطفال، كما أن الاهتمام الوالدي بإثابة التحصيل الذهني وتنمية الاستقلال عند الطفل ييسّر الزيادة في نسبة الذكاء ويقوّي الرغبة في حل المشكلات العقلية، وفي الأداء المدرسي الممتاز.
ويبدو أن شخصية الوالدين واتجاهاتهما تلعب دورا مؤثرا في الدرجات التي يحصل عليها الأطفال في اختبارات الذكاء ونحن في زمن نحتاج به الى أبناء أكثر ذكاءً وأكثر قدرة على اتخاذ القرارات التي تجعل من شخصياتهم قوية لا يؤثر بها هذا التيار او ذاك، فلدينا الكثير من القيم الايجابية التي يجب علينا أن نزرعها في شخصية الأبناء مهما تعقّدت وتطوّرت الحياة وهذا التأسيس لا يتم الا في المراحل المبكرة من حياة الآبناء.
فاذا ما أردنا أن نزرع قيمنا فيهم فعلينا اتباع أسلوب اللين والعطف وإشعارهم بالحنان كجزء لا يتجزأ من الاسلوب الديمقراطي في التعامل مع الأبناء، فبسماحك لأبنائك بالتعبير عن آرائهم تكتشف ماذا يختبئ داخل رؤوسهم من أفكار ومن فلسفة فكرية قد تتطور؛ صحيحة كانت او خاطئة، التي لا يكتشفها الأب المتسلط الا في مرحلة متأخرة مقارنة بالأب الديمقراطي الذي يستطيع أن يغيّر ويعدّل حتى في نظرة الابناء الى الحياة والخير والشر. واذا ما عدنا الى هذه الدراسة فقد وجدت أن الأسلوب الوالدي الشائع في مجتمعنا في تعامل الآباء مع الأبناء هو الأسلوب التسلطي الذي قد يخسر به أبناؤنا استقلاليتهم ويفقدون بسببه الكثير من ذكائهم.