الشبكة العراقية/
السيجارة، الورقة الملفوفة والمحشوّة بقصاصات التبغ، رحلة بقاء واهنة بين الأصابع، لكنها متواصلة، حلقات دخان تنفثها الشفاه، تختفي لتولد أخرى، دوائر صغيرة تخطّت قوتها دوامات الأعاصير والعواصف والأوبئة، تقتل بصمت وبالعلن الإرادة المسلوبة للمدخنين، مليارات المحاولات لترك التدخين فشلت وفشلت وفشلت، والأسباب كثيرة.
صيادون وجامعو ثمار قبل تسعة آلاف عام استنشقوا الدخان المنبعث من أوراق التبغ، تلك كانت البداية، ثم وضِعت في غليون قبل ثلاثة آلاف عام. الفرنسي (جان نيكوت) نقل التبغ الى إنجلترا مع انطلاقة الثورة الصناعية، وفي سنة 1565م شوهد أول إنجليزي ينفث الدخان من فتحتي أنفه. بعد مئتين وخمسين عاماً، وتحديداً عام 1828م تمكن عالمان ألمانيان هما (كرستيان فيلهام بوسيلت) و (كارل لودفيغ ريمان) من عزل مادة مسببة للإدمان على التبغ وأطلقوا عليها (نيكوتين)، تكريماً للفرنسي نيكوت. التدخين تحوّل من وجاهة وطقس اجتماعي في الأعياد والمآتم، الى عادة إدمان لملياري شخص على قيد الحياة. الملايين خسروا حياتهم وصحتهم وأموالهم ومكانتهم الاجتماعية، أو جزءاً منها بفعل هذا الوباء المتطاير العنيد، حتى يُخيّل للإنسان أن عملية الإقلاع بطائرة وسط عاصفة ثلجية هي أسهل من الإقلاع عن التدخين!
الإدمان.. دوامة شرهة
يعد الإدمان رغبة قهرية غير مسيطر عليها لتعاطي مادة أو سلوك ما، وفي التدخين فإنها تحدث عندما يفقد الشخص قدرة التخلي عن النيكوتين. يقول الدكتور الصيدلاني (شامل عبد الخضر) إن “النيكوتين تصل الى الدماغ بعد استنشاقها بثوان، وتعمل على إفراز مواد كيمياوية تحدث تغيراً في فعاليات الخلايا.” الدكتور عبد الخضر أضاف أن “ما يجعل الخلاص منها مهمة صعبة هو التسبب بحدوث تغيرات مزاجية وهياج وغضب، وربما الأرق، لذلك تُعد مشكلة الإدمان على التدخين بمثابة الدخول في دوامة شرهة تعد من أبرز المشكلات الصحية والاجتماعية التي يواجهها الإنسان اليوم.”
يورد مدخنون مدمنون، في أحاديث مع (الشبكة العراقية) أسباباً لفشل محاولاتهم في ترك التدخين، المبررات توزعت بين نفسية واجتماعية وبيلوجية، مرتبطة بتغلغل النيكوتين في أجسامهم. فيما يؤكد الباحث (لؤي عمران) أن “المحيط المجتمعي يمكن أن يساعد في إنجاح عملية الإقلاع عن التدخين من خلال التواصل والتشجيع والمراقبة وإبعاد الأقران.” مضيفاً أن “ترك التدخين يعد إنجازاً كبيراً لكل إنسان وعودة الى السياق الحياتي السليم، كما أن معلِلات الفشل، وإن كانت معقدة، لكنها ليست مستحيلة أمام إرادة الشخص وتمسكه بالحياة.” عمران أكد وجود توجه متعاظم داخل المجتمع العراقي للتخلص من عادة التدخين.
جائحة صامتة
أثناء قراءة هذه السطور، فإن شخصاً فقد حياته بسبب التدخين، إذ إن ثمة حالة وفاة كل عشرين دقيقة بسبب التدخين، أرقام وتوقعات كشفت عنها وزارة الصحة الاتحادية في أكثر من مناسبة، وإحصائيات توردها منظمة الصحة العالمية. وما يشاع هو أن 15 مليون شخص من الرجال والنساء، والكثير منهم دون سن 18عاماً أدمنوا التدخين بشقيه (السجائر والأراجيل) خلال السنوات الماضية، وأنهم ينفقون أكثر من مليون دولار يومياً على شراء السجائر. مواقع اقتصادية ومراكز بحوث دولية صنّفت العراق كرابع مستورد للسجائر والتبغ في العالم بعد إيطاليا وألمانيا وإسبانيا. أرقام تقود الى مدى اتساع المشكلة في العراق. المنظمة الدولية تقول إن التبغ يقتل ثمانية ملايين إنسان سنوياً، وقد يرتفع العدد الى عشرة ملايين بحدود العام 2030، إضافة الى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية ومشكلات القلب والجهاز التنفسي.
يؤكد الباحث الاجتماعي (لؤي عمران) أن “مشكلات الإدمان على التدخين، وبشكل خاص عند المراهقين وصغار السن، لها مسبباتها الاجتماعية والاقتصادية، ولابد من العمل على دراسة هذه المسببات لوضع الحلول الناجعة لها.” مضيفاً أن “الكثير من المدمنين بدأوا بالتدخين تحت ضغط ظروف اجتماعية، او لمواكبة موجة الاعتقاد بأن التدخين جزء من اكتمال الاستقلالية والرجولة وإثبات الذات، ويجري ذلك في ظل ضعف متابعة الأهالي او المؤسسات التربوية.” عمران قال إن “الالتزام بتطبيق قانون مكافحة التدخين رقم (19) لسنة 2012 الذي أقره مجلس النواب العراقي سيضمن انخفاض نسبة السجائر المستهلكة الى النصف او يزيد، لأن معظم جلسات التدخين تجري في أماكن مغلقة، مثل المؤسسات الحكومية أو المقاهي أو الكليات.”