كربلاء – علي لفتة سعيد/
قصر البردويل.. أثر عراقي يشمخ بعنادٍ في صحراء العراق الغربية، اختلطت فيه الآراء وتعدّدت المصادر، يعد موقعاً خاماً لم يتعرّض له أحد بالتنقيب أو بدراسة جادة، يشبه كنيسةً صغيرة تضم ستّ صوامع للرهبان الذين اعتزلوا فيه الحياة للعبادة والتأمّل. وهو على شكل زقوري صغير إلى حدٍ ما، أو ما يسمى بالطراز اللولبي، إنه صورة من صور الريازة السومرية القديمة..
كما امتزج بالحكمة الشرقية التي تمثلها الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، والفلسفة اليونانية التي انتقلت إلى مدارس وادي الرافدين عبر جامعات مدن الإسكندرية في مصر وأنطاكية.
أبعاد وصفات
يقول الباحث والمؤرخ الدكتور عدنان المسعودي إن هذا القصر يرتبط بقصص وأساطير شعبية متداولة، فهو مزيج من الواقع والخيال بسبب ندرة الذين تحدّثوا عنه (البردويل) بلغة المؤرّخين المدقّقين في المنهج، وأن كل ما ورد في التواريخ المحلية لقضاء عين التمر يرتبط بالأساطير والحكايات الشعبية. ولأن القصر يقع في الطريق إلى هذه المدينة النائية في عمق الصحراء.
المسعودي يقول إنه ذكر ذلك في كتابيه (أضواء على تاريخ كربلاء القديم) و(حفريات في ذاكرة المقدس)، بلغةٍ وصفية وموضوعية. وعن موقع القصر يقول إنه يقع جنوب الضريح الذي يعرف عند العامة بضريح أحمد بن هاشم، بنحو ستة كيلو مترات في موقع صحراوي قريب من شاطئ الرزازة الغربية جنوبي مدينة الرحالية بأكثر من ثلاثة عشر كيلو متراً تقريباً. والبردويل (بحسب وصفه) عبارة عن برجٍ لولبي يشبه في بعض الوجوه برج سامراء، ويستدرك أن البردويل بناء زقوري صغير إلى حدٍ ما، أي إنه يشبه زقورة أور.
ويمضي بقوله إن محيط دائرة القاعدة منه يبلغ بحدود الأربعين متراً، ويرتفع ما تبقى من البرج إلى نحو خمسة عشر متراً. ويتألف البرج من ثلاث دورات لولبية، تلتف على محور البرج بسلم درجي يبلغ عرضه متراً واحداً تقريبا. وفي أعلى البرج هناك ست صوامع (حجرات صغيرة) متقابلة بينها ممر يبلغ عرضه التقريبي بحدود المتر أيضاً. عقدت تلك الصوامع بطريقة (العقد المدبّب) بريازة حيريّة متقنة. ويذكر أنه قبل أن ينهار أعلى البرج، في أوائل القرن العشرين، كانت تلك الصوامع تستظلّ بقبّة مجصَّصة بيضاء، تُحمل فوق أعمدة آجريّة تستند قواعدها السفلية إلى مدرج اللولب الثالث في المنعطف العلوي من البرج. يوصف البرج بأنه عبارة عن كنيسة نسطورية صغيرة، تضم فقط ست صوامع متواضعة، تبلغ أبعاد كل صومعة منها بحدود المترين في ثلاثة أمتار، وبارتفاع قياسي يبلغ المترين على الأرجح، وفي أسفل هذه الكنيسة هناك مقبرة كبيرة للنصارى تضم عشرات النواويس التي دمّرها أصحاب النفوس الضعيفة، بعد ان نبشوا الرفات بحثاً عن الذهب أو الأحجار الكريمة. ويقول المسعودي إنه توجد بالقرب من القصر كذلك بئر عميقة، يظن أنها البئر التي توقف عندها بعض من جيش أهل الكوفة بعد عودتهم من معركة صفين .
غياب البعثات
أما الباحث حسن الوزني فيذكر أن هناك اختلافات كثيرة حول الشكل والتسمية، فقد سمّي (البرداويل) و(البرذويل)، لكن التسمية استقرت على (البردويل)، مثلما اختلف الكثيرون في تشخيصه هل هو قصر أم حصن أم كنيسة أم صومعة لعابد مسيحي؟ يذكر أن البناء أنشئ قبل الإسلام على طراز البناء الحيري، الذي سادته الديانة المسيحية بفرعها النسطوري، الذي امتد في تلك الفترة على امتداد صحراء كربلاء الغربية. ويُعدّ هذا الأثر ضمن سلسلة المباني المندرسة في الطريق الممتدة بين بادية الشام والرحالية مارّاً بالنجف والإخيضر، التي كانت من الطرق التجارية التي تربط مملكة الحيرة ببلاد الشام. ويؤكد الوزني أن القصر يعاني الإهمال، فمن جهة لم نجد أي ذكر أو معلومة في كتب التاريخ والآثار والكتب الخاصة بالبلدان والرحلات عن هذا المعلم التاريخي، ومن جهة أخرى لم تصل هذا الأثر التاريخي البعثات الأثرية والتنقيبية، لذا تجد معلوماتنا عن هذا الأثر قليلة جداً ونادرة، وربما تكون أكثرها تخمينية وليست علمية.
تصريحات أخرى
وقد غاب التوحيد في التصريحات، على الرغم من أنه يعد أثراً أنشئ لتوحيد العبادات، لذا وقع التوصيف بأنه بني في زمن حضارة تقع بين طبقتين من طبقات الحضارات العراقية المتعددة، وهو شاهدٌ تاريخي على عظمة الحضارات الإنسانية التي امتزجت وتصاهرت على أرض وادي الرافدين الخالدة .هنا على هذه الأرض، وعلى طول شواطئ الفرات الغربية، تعاضدت فيه الفلسفة اليونانية بالحضارات السومرية والبابلية والآرامية.
وربّما نكتشف من خلاله أن وادي الرافدين هو وطن الإنسان، كل الإنسان، مهما كان لونه أو لغته او دينه أو شريعته.
البردويل هو أحد أكبر الشواهد التي امتزجت فيها مؤثرات الزقورتين السومرية والبابلية، بمؤثرات الحضارة الهيلنستية، ليتأطر أعلى البرج بقبّةٍ بابلية مجصصة بالأبيض المشع الذي يعكس رمزاً لنقاء القلب، وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان.