ضحى مجيد سعيد
لم تكن قلعة أربيل الشهيرة وجهة أثرية فحسب، بل تعدت ذلك لتصبح وجهة حضارية وثقافية. ربما يعود السبب إلى أن هذه المدينة تعود إلى حضارة غابرة، ألا وهي الحضارة الآشورية، التي رسمت أحد ملامح التنوع الحضاري لبلاد ما بين النهرين على مر العصور.
ملامح تركزت في شمال العراق بمحافظتي نينوى وأربيل، وربما الأجزاء الشمالية لكركوك، فهذه المدن امتدت من تأريخ قديم ونسجت منها ثقافات وموروثات أثرية وتأريخية كثيرة، ما زالت شاخصة وحاضرة تحكي لمن يتأملها ويتمعن ويدقق فيها قصصاً وروايات عديدة، ترسم له صوراً جميلة مزخرفة بفنون الحقب والأزمان الماضية التي مرت بها. وقلعة أربيل واحدة من أبرز هذه المعالم في كردستان العراق، أصبحت مقصداً مهما للسياح والكتّاب والقراء والمثقفين الوافدين إلى أربيل، والمتواجدين فيها من العرب والأجانب.
مستوطنات متعاقبة
بعد تجوال وتأمل بجمال قلعة أربيل وحلاوة مناظرها وأجوائها، والزخم البشري المتنوع الذي تمتاز به على مدار السنة من السياح والمثقفين والمتبضعين، التقينا (أ.م.د. عبد الله خورشيد)، رئيس نقابة الآثاريين في كردستان، الذي كان حاضراً في القلعة، وسألناه عن مواقع الآثار الآشورية في أربيل وقلعتها الشهيرة فتأمل قائلاً: “لا نستطيع الجزم بأن كل الآثار الموجودة آشورية 100% ، وعلى سبيل المثال قلعة أربيل، إذ إن هذه القلعة التأريخية الإسلامية تقوم فوق تراكم طبقات أثرية عديدة تُمثل مستوطنات متعاقبة منذ أن سكنها أول مُستوطن، وأن الأدوار السفلى لم تجر فيها تحريات أثرية حتى الآن، ولو أُتيحت الفرصة لإجراء حفريات في هذه الطبقات فإنها ستسفر عن نتائج ومعلومات مهمة في تأريخ القلعة والمنطقة، وإلى أن تتحقق هذه التحريات، لا يمكن معرفة أشياء مؤكدة عن أدوار المدينة القديمة، سواء ما ورد عنها من إشارات من النصوص المسمارية أم غيرها.”
خورشيد أضاف أن “قلعة أربيل تمثل تلاً لسبع حضارات، وليست حضارة واحدة، لذلك لا نستطيع أن نقول إنها قلعة آشورية فحسب، حال بقية المواقع الأثرية، فهذه الآثار تحمل معاني الماضي في نواح عديدة، وهي المفتاح للحاضر وللمستقبل.”
متحف تربوي
خلال جولتنا في قلعة أربيل، توجهنا إلى أول متحف تربوي في العراق، ما زال شاخصاً في أربيل بالقرب من قلعتها، الذي كان مدرسة قديمة تعد أول مدرسة تأسست في أربيل، ولديها مكانة خاصة في ذاكرة الأربيليين، فضلاً عن موقعها. وبسبب موقعها المميز وسط مركز المدينة، وكثرة الازدحامات، تحولت إلى متحف تربوي يعد الأول من نوعه في العراق. رواد هذا المتحف هم من طلاب المدارس والمعلمين والسياح الأجانب والعراقيين والكتاب والصحفيين. خلال جولتنا التقينا مدير متحف وأرشيف تربية أربيل (أوميد أنور البرزنجي) الذي قال: “تولدت فكرة تأسيس متحف وأرشيف تربية أربيل بعد إغلاق بناية أقدم مدرسة في أربيل سنة 2003 أو 2004 بسبب موقعها وسط المدينة وازدحام السيارات والمواطنين، فطرح الأستاذ الصحفي إسماعيل البرزنجي فكرة تحويل المدرسة إلى متحف وأرشيف لتربية أربيل، وبعد 10سنوات وافقت الحكومة على المشروع وشرعت بتعمير المدرسة، وفُتح باب المتحف في 19/3/2014، وكان أول متحف تربوي على مستوى إقليم كردستان والعراق والمنطقة بأكملها، كما أن بناية المدرسة هي أقدم بناية شُيدت عليها مدرسة نظامية بمدينة أربيل في فترة حكم الملك فيصل الأول، لهذا السبب اختاروا هذا المكان للحفاظ على البناية.”
وأكمل: “هناك أنشطة وفعاليات تقام سنوياً على أرضية هذا المتحف، وهي فعاليات تربوية وعلمية، مثلاً اليوم العالمي لصورة أبيض وأسود، ويوم السدارة الفيصلية، ويوم المعلم، والذكرى السنوية لرواد التربية والتعليم في أربيل، وغيرها. علماً بأن الدخول إلى المتحف التربوي بدون مقابل.”
تراث مشترك
حول المقتنيات والقطع المهمة المحفوظة في المتحف قال (البرزنجي): “يحتوي المتحف على تراث مشترك بين المدارس العربية في العراق ومدارس الدراسة الكردية، ويضم 13 غرفة لعرض المقتنيات ومذكرات أرشيف وصور سجلات وأفلام سينمائية تربوية وكتب، ومن أهم القطع الموجودة في المتحف سجلات المعلمين والتلاميذ في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.”
يضيف قائلا إن “من أهم رواد هذا المتحف الجميل أساتذة في المجال التربوي والتاريخ في مدينة أربيل، وأشخاص يهتمون بالتراث التربوي، منهم (أستاذ محسن زي اسماعيل برزنجي، وعمر فرهاد، وصابر حسين، وشهرزاد رسول، ومحافظ أربيل أوميد خوش ناو)، كما يزور المتحف التربوي أسبوعياً ويومياً طلبة وأساتذة مدارس ومعاهد وجامعات في زيارات علمية، وأيضاً يرتاده زوار من المدن العراقية كافة ومهتمون من القنصليات الموجودة في الإقليم.
مقصد المثقفين
أسئلة كثيرة دارت في ذهني وأنا أتجول في قلعة أربيل بكل تفاصيلها: (قلعتها، وأروقتها، وشوارعها، وأماكنها القديمة وأيضاً الحديثة، وحتى المارة من ناسها، فضلاً عن رواد المقاهي والمطاعم والكافيهات) لعلي أجد إجابة عن الأسباب وراء اعتبار هذه القلعة مقصداً للمثقفين والقراء منذ زمن قديم. وفعلاً وجدت الإجابة بعد بدء رحلة الأسئلة التي توجهت بها إلى مقهى مُكتظ بالشباب اسمه (مجكو)، حيث يهيمن الدخان على أجواء المقهى، لكني فوجئت في إحدى زوايا المقهى برجل كبير منعزل يتصفح كتاباً، فهرعت إليه وسألته: ما اسمك وماذا تقرأ؟ فأجاب: أنا محمد علي جواد، أعمل أستاذاً للغة العربية، أنا من البصرة، وجئت هنا لأجالس الكتاب.
وأكمل: “هذه (الجايخانة – مجكو) أنا من روادها، فعندما أكون في أربيل يجب أن أحضر إليها، ولي معها ذكريات كونها قديمة يعود تأسيسها إلى 1940م على يد مجيد إسماعيل المعروف بـ (مجكو)، أنا أحضر إليها لأنها تجاوزت كونها (جايخانة)، بل أضحت مكاناً يختص بالنشاطين السياسي والثقافي، بالإضافة إلى دورها كجايخانة، ونتيجة لذلك تحولت بمرور الزمن إلى رمز يفوح منه عبق التاريخ ويجسد روح أربيل التأريخية.”
ثم سألته “ماذا تضيف لك القراءة؟” فأجابني: “إن القراءةَ تضيف المعنى بطريقة ما إلى الحياة، لكن لا يمكن انتظار نتائج منها بلا شرط المواصلة، إذ إنها كالغذاء والرياضة أثرها يأتي ببطء، لكنه لا يرحل أبداً، الأمر تماماً معها أشبه بالأهمية المرجوة من وراء وجبة وحيدة، مهما كانت مليئة بالعناصر الغذائية المفيدة فإنها – برغم ذلك – تبقى غير كافية، هكذا هي القراءة، عملية تراكمية وممارسة لا تعطي ثمارها إلا من خلال الاستمرار، والاستمرار فقط.” أعجبني جوابه وأعطاني دافعاً مهماً للاستمرار بالقراءة وزيادة الوقت المخصص لها.
بهذا المقدار البسيط من الصور الفنية والمشاهدات والأجواء، ختمت جولتي المتواضعة ونظرتي التأملية في قلعة أربيل التي أشعرتني بعمق ما تحمله من قيمة تراثية وثقافية.