طهران – منى السراج/
مسجد جمكران روضة وارفة بالقرب من مدينة قم المقدسة، يرمق الوافد إليه مئذنتين طويلتين ارتفعتا إلى عنان السماء أشبه بسلّمين يعرج فيهما المؤمن إلى العالم العلوي، تحتضنان قبة خضراء مزدانة بنقوش إسلامية بديعة، كأنهما ضلعان حانيان يضمان قلباً نابضاً.
يشعر المرء بشعور عجيب ينتابه وهو يقارب الخطو ويرطب شفتيه بترنيمة الدعاء لصاحب العصر عليه السلام، ويُصيخ الزائر العاشق سمعه وهو يتجول في أروقة المسجد مترقباً أن تلتقط أذناه هيمنة الملائكة، ويُجيل طرفه هنا وهناك علّه يلحظ من زغب أجنحتها الملكوتية شيئاً يُتحف به أهله إذا عاد، ولا عجب، فهذه الأمكنة الشريفة تتزاحم عليها وفود الملائكة أكثر من تزاحم وفود الزوار من عالم البشر. ولقد أرى الإمام زين العابدين عليه السلام أبا حمزة الثمالي.. فضلة من زغب الملائكة، ثم قال له: يا أبا حمزة، إنهم ليزاحموننا على متكآتنا.
الموقع وأهميته
في مدينة قم المقدسة، من مرقد السيدة فاطمة المعصومة (ع)، على الطريق الواسعة التي تسمى (شارع النبي الأعظم)، ومع اقترابنا من نهايته، تطل منارتا مسجد مهيب، يفوق مساجد المدينة في ضخامته وروعة بنائه، وهو أقدمها أيضاً، إنه مسجد (جمكران).
يعد المسجد واحداً من أهم المساجد، بل المواقع الدينية في إيران، كما أنه من العلائم البارزة لهذه المدينة. ومن النادر جداً أن يزور شخص مدينة قم ويغفل عن زيارة هذا المسجد، إذ يأتي الزائرون لزيارته وأداء الصلاة والشعائر الدينية تبركاً فيه. ويكتسب أهميته لارتباطه بالإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، جرى بناؤه بأمر من الإمام الحجة، ومــن أجــل هــذا كله عد علماء الشيعة الأعلام مسجد جمـكران من جملة الآيات الباهرة، وكانوا يرون أنه مهبط للبركات الإلهية، وكان بعضهم يتوجه إليه مشياً على الأقدام.
حظي المسجد بعمليات توسعة وإعمار مستمرة، إذ أضيفت له مؤسسات ومراكز دينية وثقافية، ويقدر عديد الزائرين له بما يزيد على 15 مليون زائر سنوياً.
تاريخ المسجد وتسميته
هذا المسجد، وبسبب قربه من قرية جمكران، يُعرف باسم مسجد جمكران، وبسبب نسبته إلى الحجة بن الحسن (عج)، فسمي أيضاً باسم مسجد صاحب الزمان، كما كان يسمى سابقاً بمسجد (قدمگاه) أيضاً، بمعنى موضع القدم أو المقام. يعود تاريخ هذا المسجد الى القرن الرابع للهجري أي إلى أكثر من 1000 عام، وقد أصبح خلال العقود الأخيرة أحد المزارات الدينية المهمة في إيران. يحضر الكثير من الناس ليل الأربعاء إلى هذا المسجد ليؤدوا فيه الصلاة والعبادات.
قصةالبناء
روى (المحدث النوري)، في (جنة المأوى)، أن (حسن بن مثلة الجمكراني) قال:
كنت ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 393 هـ نائماً في بيتي، فلما مضى من الليل نصفه، فإذا بجماعة من الناس على باب بيتي أيقظوني وقالوا: قم وأجب الإمام المهدي صاحب الزمان، فإنه يدعوك.
فجئت معهم إلى المكان الذي هو الآن مسجد جمكران، فدعاني الإمام (عج) باسمي، وقال: اذهب إلى حسن بن مسلم وقل له: إن هذه أرض شريفة قد اختارها الله تعالى من غيرها من الأراضي وشرّفها.
قال حسن بن مثلة: قلت: يا سيدي لابدّ لي في ذلك من علامة، فإن القوم لا يقبلون ما لا علامة ولا حجّة عليه، ولا يصدقون قولي. قال: نحن سنعلِّم هناك، فاذهب، وبلّغ رسالتنا، واذهب إلى السيد أبي الحسن (أحد علماء قم)، وقل له أن يبني في هذه الأرض مسجداً، وإن في قطيع جعفر الكاشاني الراعي معزاً يجب أن تشتريه، وتجيء به إلى هذا الموضع وتذبحه، ثم تنفق لحم المعز على المرضى ومن به علّة شديدة فإن الله يشفيهم جميعاً، كما أمرني الإمام (عج) بصلاة خاصة. وعند الصبح جئت حتى بلغت المكان الذي ذهبت إليه البارحة، ورأيت السلاسل والأوتاد، وهي حدود بناء المسجد على ما أوصى به الإمام (عج) بذلك، ثم ذهبت إلى السيد أبو الحسن، فلما وصلت إلى بيته، قال لي الخادم: إن السيد أبا الحسن ينتظرك من سحر، أنت من جمكران؟ قلت: نعم، فدخلت وسلمت عليه، فأحسن في الجواب وأكرمني، ومكّن لي في مجلسه، وسبقني قبل أن أحدّثه، وقال: يا حسن بن مثلة إني كنت نائماً فرأيت شخصاً يقول لي: إن رجلاً من جمكران يقال له حسن بن مثلة يأتيك بالغدوّ ولتصدّقن ما يقول، واعتمد على قوله، فإن قوله قولنا، فلا تردّن عليه قوله، فانتبهت من رقدتي وكنت أنتظرك الآن.
ثم قصصت عليه ما حدث، فتوجهنا نحو جمكران، فلما قربنا من القرية رأينا المعز، فدخل حسن بن مثلة بين القطيع وكان ذلك المعز خلف القطيع، فأقبل المعز عادياً إلى الحسن بن مثلة، فأخذه الحسن ليعطي ثمنه للراعي ويأتي به، فأقسم جعفر الراعي أنى ما رأيت هذا المعز قط، ولم يكن في قطيعي إلا أني رأيته، وكلما أريد أن آخذه لا يمكنني، والآن جاء إليكم. فأتوا بالمعز كما أمر به السيد إلى ذلك الموضع وذبحوه.
ثم جاء السيد أبو الحسن الى المسجد بالجذوع، وذهب السيد بالسلاسل والأوتاد وأودعها في بيته، فكان يأتي المرضى والمعلولين، ويمسّون أبدانهم بالسلاسل، فيشفيهم الله تعالى عاجلاً ويصحّون.
البئر والأماني
توجد بئر في الفناء الخلفي للمسجد، حيث يمكن للزوار كتابة أمانيهم ورغباتهم على ورقة ثم رميها في البئر. هذا يمثل تقليداً دينياً، إذ يطلب الناس الشفاعة ويعبّرون عن رغباتهم بهذه الطريقة.