شيرازــ منى عبد الحسين محمد
تعدّ عتبة (شاه جراغ) واحدة من أبرز البقاع الدينية في إيران وأكثرها جذباً للسياح الوافدين إليها من أرجاء العالم متلهفين إلى أجوائها المفعمة بالروحانية السماويّة المهدئة للقلوب والمزيلة لتعب النفوس.
وتعني كلمة شاه جراغ (ملك النور)، إذ ان هناك الآلاف من الأشخاص يلقبونه بـها بسبب شظايا المرايا الصغيرة التي تعكس الضوء في كل اتجاه بداخل المرقد، الذي تحيط بجدرانه مختلف أنواع النقوش والزخارف، فقد ضمت مدينة شيراز، مدينة الحدائق والجنائن والزهور والعشق والشِّعر والأدب، القصور والمساجد والعتبات المزدحمة بالطامحين المتطلِّعين لبلوغ شفاعة وبركة آل البيت، المتأمِّلين الوصول إلى الرتبة الأسمى في القَبول وتحقيق المراد، في مرقد الأولياء والشُّعراء العظام.
الملك المضيء
حظيت مدينة شيراز منذ أن ضمت جسده بأهمية كبيرة، فضلاً عن طبيعتها الساحرة وكثرة الآثار القديمة والأماكن الدينية في شتى أكنافها، وتتألق بين سائر مدن إيران، فهي قبلة السائحين والزائرين من مختلف أنحاء إيران والعالم. فمن هو ملك النور؟ إنه السيد أحمد بن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، ويعرف بشاه جراغ، أي الملك المضيء، أو المنير. ويسمى أيضاً بالأمير، وهو من أولاد الإمام الكاظم (ع) بعد أخيه الإمام الرضا (ع)، وأمه من السيدات الورعات، وكانت موضع ثقة الإمام الكاظم (ع)، بحيث أنه حينما رحل إلى بغداد أودعها مواريث ووثائق الإمامة. ضريحه المبارك يتلألأ في قلب مدينة شيراز بأنواره القدسية وعمارته وزخارفه الجميلة التي تعكس فن العمارة الإسلامي الإيراني الأصيل، حيث تقصده في كل عام أعداد هائلة من الزائرين من شتى أنحاء إيران والعالم.
قبة ومئذنتان عظيمتان
إن الناظر إلى الضريح تشده ابتداء قبّة مهيبة مصنوعة بطراز رائع ومزخرفة بنمط مذهل عبر زخارف القاشاني الملوّن والمقرنصات اللطيفة التي تجعلها من أجمل قباب العالم، وعلى جانبيها مئذنتان عظيمتان جرت زخرفتهما بنفس الجمال والروعة، إحداهما تتزيّن بأسماء الله تعالى، والأخرى بأسماء الأئمة وألقابهم، بحيث تزيد من نبضات قلوب الزائرين، ولاسيما عندما تبث منها أصوات الأذان. والضريح في هذا المشهد يتماهى مع ضريح الإمام موسى الكاظم (ع) وحفيده الإمام الجواد (ع)، اللذين يتوسطان مدينة الكاظمية المقدسة، التي بدورها تتوسط العاصمة بغداد. فن العمارة في هذا الضريح المقدس فريد من نوعه، إذ يعكس أجمل معالم الطراز الصفوي والزندي والقاجاري، وكل زائر حينما يتأمل فيه يدرك عظمة جهود الخبراء والمتخصصين المعماريين الذين جادت أيديهم بزخارفه ونمط بنائه، إذ تكتنفه روحانية إسلامية، فضلاً عن كون هذا الضريح المبارك مركزاً دينياً وتحفة فنية، فهو أثر تأريخي عريق، يضرب بجذوره إلى ما قبل ستة قرون من الزمن حينما شيدته سلسلة حكام (الأتابك) في شيراز، وفي بادئ الأمر لم تكن مساحته بهذا الحجم الكبير لكن السيدة (تاشي خاتون) والدة الحاكم (أبي إسحاق إينجو) أمرت بتوسيع مساحته وتطوير بنائه في عهد سلسلة حكام آل المظفر.
مراحل وتغيرات
هذه العتبة المنوّرة عانت الكثير من الأحداث، ولاسيّما الزلازل، كما شهدت العديد من التغييرات طوال الفترات التاريخية المتتالية حتى وصلت الى ما هي عليه الآن. بناؤها الأصلي يعود إلى عصر عضد الدولة (ديلمي)، من الحكام البويهيين الذين كانوا من محبّي مذهب التشيّع. وخلال العصور التالية أيضاً جرى ترميم البناء وأضيفت اليه مبانٍ جديدة، ولاسيما في عصر أتابكان على يد أمير مقرّب الدين مسعود وزير الملك أتابك سعد الزنكي. وفي عهد آل مظفّر على يد الملكة تاشي أمّ الملك أبي إسحق التي قامت بإنجازات أساسيّة لتحسين البناء. استمرّت هذه التطويرات في عهدي الصفويّين والأفشاريين، منها ثريّا ذهبية مهيبة علّقها الملك نادر بجوار الضريح تعبيراً عن شكره للفوز على الأعداء. القاجاريون أيضاً قاموا بأعمال فنيّة رائعة. وفي عصرنا الحاضر لم تزل تجري عمليات تحسين الأجواء وإضافة الزخارف والفنون المعمارية الرائعة الجمال، مثل صالة كبيرة بنيت في الزاوية الجنوبية فوق الرأس محتضنةً منبراً رخاميّاً نفيساً للغاية.
سليل أهل البيت
أما المبنى الحالي فقد شيد قبل خمسين سنة تقريباً، حين قامت السلطات آنذاك بهدم السوق القديم بين ضريح السيد أحمد بن موسى الكاظم (ع) وضريح السيد محمدي، لتبلغ مساحة حرم السيد أحمد الإجمالية ۲۰۰۰ متر مربع، وحرم السيد محمدي ۱۰۰۰ متر مربع، وهما مشيدان في طابقين بارتفاع ۱۳م، وفي الطابق الثاني توجد العديد من الغرف، وتحيط بجدران الحرم مختلف أنواع النقوش والزخارف بالآجر والفسيفساء بألوان زاهية في غاية الروعة، وفي معظمها دونت آيات قرآنية وعبارات مقدسة. أما المداخل فيبلغ عددها خمسة منتشرة في جميع جهاته، ويعتبر يوم السادس من ذي القعدة في التقويم الوطني الإيراني يوم ذكرى تخلید سليل أهل البيت أحمد بن موسى بن جعفر (ع) (شاه جراغ) الذي يعتبر من مشاهير الصادقين والأتقياء، فقد كان مقرباً من أبيه الإمام الكاظم (ع) إلى درجة كان يُظن أنه الإمام بعده. فقد كان عالماً فاضلاً يهتم بكتابة القرآن الكريم، وكان صاحب خط جميل، يأخذ أجرة على ذلك، فيشتري بثمن عمله العبيد ويعتقهم لوجه الله، ولا شك في أنه كان يقوم بتربيتهم وتهذيبهم ثم يعتقهم ليكونوا دعاة إلى الإسلام. كما كان يفعل جده الإمام علي بن الحسين عليه السلام. كما كان موضع حفاوة وله منزلة سامية عند والده الإمام الكاظم (ع)، فقد كان يحبه حباً شديداً. يقول الشيخ المفيد في الإرشاد (كان أحمد بن موسى كريماً جليلاً ورعاً، وكان أبو الحسن موسى يحبه ويقدمه، وهب له ضيعته المعروفة باليسير).
جدير بالذكر أن المرقد الشريف تعرض إلى عمليتين إرهابيتين، الأولى في عام 2022 والثانية في عام 2023 حين دخل عدد من المسلحين إلى المرقد وقاموا برمي الزائرين بوابل من الرصاص، راح ضحيتهما العشرات من الرجال والنساء والأطفال.